وأخيراً إذا كان الفارابي قد استطاع التخلص من الاعتراضين السابقين فهناك اعتراض ثالث تعز الإجابة عليه، وهو أن تفسير الوحي والإلهام على النحو السيكلوجي السابق يتعارض مع كثير من النصوص الثابتة. فقد ورد أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في صورة بعض الأعراب أو أنه كانت تسمع له صلصة كصلصلة الجرس، إلى غير ذلك من آثار متصلة بالوحي وطرائفه. ولا نظن أن هذه الآثار غابت عن الفارابي، إلا أنه، فيما نعتقد، شغل بمسألة أخرى، وعني بأن يثبت أولاً وبالذات أن الوحي أمر ممكن ولا يخرج على المبادئ العلمية المقررة، وبذا أصبح اتصال الروحاني بالجسماني الذي كان يستبعده الصابئة وغيرهم مقبولاً، وينبغي أن نلاحظ أن جُلّ جهد الفارابي في نظرية النبوة لم يكن موجهاً نحو أهل السنة الذين يؤمنون بكل ما جاء في القرآن والحديث متصلاً بالوحي وكيفياته، وإنما كان مصوباً إلى تلك الطائفة التي أنكرت النبوة من أساسها، وهذه الطائفة لم تحارب الإسلام فحسب، بل حاربت الأديان على اختلافها. فلم ير الفارابي بداً من أن ينتصر لمبدأ النبوة من حيث هو وان يوضحه بمعزل عن أية بينة أو وسط خاص، وليس بعزيز عليه بعد هذا أن يتأول ما ورد من نصوص دينية تخالف آراءه أو تبعد عنها، وقد سلك سبيل التأويل غير مرة، فسلم بوجود اللوح والقلم مثلاً، ولكنه فسرهما تفسيراً يتفق مع نظرياته الفلكية والميتافيزيقية، ونحن لا ننكر أن الاسترسال في التأويل قد يغير كثيراً من معالم الدين، إلا أنه وسيلة لازمة لمن يحاولون التوفيق بين العقل والنقل. والحقيقة أن الفارابي وقف هنا، شأنه في نظرياته الأخرى، موقفاً وسطاً، فأثبت النبوة إثباتاً عقلياً علمياً غاضاً الطرف عن بعض النصوص والآثار المتصلة بها. وكأنه في الوقت الذي منحها فيه أسلحة جديدة جردها من بعض ما كانت تعتمد عليه من أحاديث وأسانيد. والموفق مضطر دائماً لأن يستخلص من الرأيين المتقابلين مذهباً جديداً يمت إلى كل واحد منهما بصلة.
ومهما يكن من شئ فلو لم يصنع الفارابي إلا أنه أظهر في جلاء منزلة النبي السياسية والاجتماعية لكُفي. وقد استطاع بهذا أن يرد على أباطيل أبن الراوندي واعتراضات الرازي. وعلى ضوئه سار فلاسفة الإسلام الآخرون وفسروا كثيراً من التعاليم الدينية بهذه الروح وتلك النزعة. وبوضع النبوة هذا الموضع الإنساني الاجتماعي يمكن أن تحل مشكلة