للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

به على شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد. ومرة يذهب به إلى ابن بنت الأعز، وأخرى إلى غيره من علماء العصر، وهو فرح به مستبشر، والولد يرى هذا السمت وهذه الهيبة وذلك الوقار وتلك المثل العليا لما انطوت عليه نفسه. فيتوثب قلبه، ويمتلئ صدره بهجة وطموحا

ثم عزم الأب أن يقيمه في القاهرة بين أولئك الأعلام، وفي ذلك الجو العلمي؛ وكان قد تفقه وحفظ كتاب التنبيه؛ ولكنه حين عرض الأمر على ابن دقيق العيد عارض فيه وكأنما استصغر سنه، وأشفق عليه من الغربة. فقال لأبيه: عد به إلى (البر) حتى يصير فاضلاً. فعاد به، وفاته ما كان يحرص عليه أبوه، فيما يظهر، من التتلمذ على شيخ الإسلام والأخذ عنه، والتشيع بمبادئه؛ فأنه لم يعد إلى القاهرة إلا بعد وفاة ابن دقيق العيد أي نحو سنة ٧٠٢هـ (١٣٠٢م)

- ٢ -

جاء تقي الدين إلى القاهرة ولم يكد يبلغ العشرين من عمره، وهو يتوثب رغبة إلى ارواء غليله العلمي في هذه البيئة العلمية الخالصة التي تتجاوب فيها أصداء العلم المختلفة، وتقوم بها المناظرات بين الآراء المتباينة، وكان بها طائفة من الأئمة الأعلام في مختلف الفنون:

كان بها ابن الرفعة شيخ الشافعية، وإمام الفقهاء، وبه تفقه السبكي

وكان بها في الأصول والمعقولات الإمام النظار علاء الدين الباجي، وكان رجلا واسع الباع في المناظرة، مستقل الرأي في الاستنباط، (لا يفتي في مسألة حتى يقوم عنده الدليل عليها، فإن لم ينهض عنده قال: مذهب الشافعي كذا، والأصح عند الأصحاب كذا، ولا يجزم) كما يقول عنه صاحب طبقات الشافعية؛ وما نشك في أنه كان قوي الأثر في تقي الدين، عظيم اليد على قوته في الجدل، مشجعاً على الاستقلال في الرأي، حتى ليعدون له مسائل كثيرة من فروع الفقه انفرد بالرأي فيها دون إمامه الشافعي وأصحابه وخلفائه؛ وإذا كان مرجع هذا في أول الأمر إلى فطرته السليمة، وبصيرته السديدة، وإدراكه القوي؛ فإن لمثل ذلك الإمام فضل التسديد وتقوية تلك النزعة الفطرية، وحمايتها من عوامل الضعف

وكان بها في فن الحديث العلامة الكبير الحافظ شرف الدين الدمياطي إمام أهل الحديث، وأستاذ الأستاذين في معرفة الأنساب، وكان صديقاً لأبي تقي الدين مكبراً له، فاختص الابن

<<  <  ج:
ص:  >  >>