للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أضاءه. وعجبتُ أن يكون مثلُ هذا الشيخ قد همَّ بقتل نفسه يوماً وأنا أرى بعينيَّ نفسه هذه منبثقةً في الحياة انبثاق النخلةِ السحوق

وتكلم هذا الرجل فقال:

أمَا إذ ناشدتنا الله والإسلام وميثاقَ العلم ووحيَ الأقدار في حكمتها، فإني محدِّثك بخبري على وصفه ورَصْفه: أملقْتُ منذ ثلاثين سنة ووقف بي من الدهر ما كان يجري، وأصبحتُ في مزاولة الدنيا كعاصرِ الحَجَر يريد أن يشرب منه، وعجزتْ يدي حتى لَظُفْرُ دجاجة في نبشها الترابَ عن الحبة والحشرة أقدرُ مني، وَطرَقَتني النوائبُ كأنما هي تُساكنُني في داري، وأكلني الدهر لحماً ورماني عظاماً فما كان يقف عليّ إلا كلاب الطريق؛ ولي يومئذ امرأةٌ أعقبت منها طفلاً ويَلزمني حقٌّهما ولا أستطيعه، وكان بيننا حبٌّ فوق المعاشرة والألفة قد تركني من امرأتي هذه كالشاعر الغزِلِ من صاحبته، غير أن الشعر في دمي لا في لساني

فلما نكتني المصائبُ وتناولتني من قريب ومن بعيد؛ قلت للمرأة ذات يوم وقد شَحِبَتْ وانكسر وجهها وتَقبضَ من هُزاله: وأيمُ الله يا فلانة لو جاز أن يُؤكل لحمُ الآدميْ لذبحت نفسي لتأكلي وتدِرِّي على الصبي. ولقد هممتُ أن أركبَ رأسي وأذهب على وجهي لتفقداني فتفقدا شُؤمي عليكما؛ ولكن ردّني قلبي، وهو حبسني في هذه الدنيا الصغيرة التي بينكما، فليس لي من الأرض مَشرقٌ ولا مغربٌ إلا أنت وهذا الصبي. ولستُ أدري والله ما نصنع بالحياة وقد كنا من نباتها الأخضر فرَجعنا من حطبها اليابس، وعادت الشمس لا تغذوها بل تمتصُّ منها ما بقى، ولا تستضيء لها، ولكن تَستوقد عليها!

إن من فَقَد الخيرَ ووقع في الشر، حَريٌّ أن يكون قد أصاب خيراً عظيماً إذا قتل نفسَه فخلُص من الشر والخير جميعاً، لا يُكدي ولا ينجح، ولا يألم ولا يَلذْ؛ وكما أنكرته الدنيا فلينكرها. أما إنه إن كان القبرُ فالقبرُ ولكن في بطن الأرض لا على ظهرها كحالنا؛ وإن كان الموتُ فالموتُ ولكن بمرًّة واحدة وفي شيء واحد لا كهذا الذي نحن فيه أنواعاً أنواعاً. قد ماتت أيامنا وتركتنا نعيش كالموتى لا أيام لهم، وزاد علينا الموتى في النعمة والراحة أنهم لا يتطفَّلون على أيان غيرهم فيطُردوا عن يوم هذا ويوم ذاك

قال: فاستعبرَت المرأةُ باكية، ولما فرغتْ من كلام دموعها قالت: كأنك تريد أن تفجعنا

<<  <  ج:
ص:  >  >>