ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، ومنها ما يكون خطبا، وربما كانت رسائل. فعامة ما يكون من هذه الأبواب، فالوحي فيها والإشارة إلى المعنى ابلغ. والإيجاز هو البلاغة). ومن الأمثلة الأقوال المقتضبة قول ابن المعتز:(البلاغة هي البلوغ إلى المعنى ولما يطل سفر الكلام). وقول الخليل:(البلاغة هي ما قرب طرفاه وبعد منتهاه)
ولبلغاء الغرب في البلاغة أقوال تشبه ما قال بلغاء العرب في إجمال المعنى وبعد الإشارة. قال لاهارب:(البلاغة هي التعبير الصحيح عن عاطفة حق). وقال سورين:(هي الفكرة الصائبة، ثم الكلمة المناسبة). وقال لابرويير:(هي نعمة روحية تولينا السيطرة على النفوس). ولقد تخيلها (سنيك) إلهاً مجهولا في صدر الإنسان. ومثلها القدماء في صورة إله يتكلم فيخرج من فيه سلاسل من الذهب تسلك السامعين فلا يفلت منهم أحد. والتمثال على هذا الوضع لا يمثل غير بلاغة الخطيب
والناظر المتقصي في أقوال هؤلاء وأولئك يستطيع أن يستخلص من جملتها أن البلاغة هي بمعناها الشامل الكامل ملكة يؤثر بها صاحبها في عقول الناس وقلوبهم من طريق الكتابة أو الكلام. فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة؛ والتأثير في القلوب عمل الموهبة الجاذبة المؤثرة؛ وفي هاتين الموهبتين تنشأ موهبة الإقناع على أكمل صورة. وتحليل ذلك أن بلاغة الكلام هي تأثير نفس في نفس، وفكر في فكر. والأثر الحاصل من ذلك التأثير هو التغلب على مقاومة في هوى المخاطب أو في رأيه. وهذه المقاومة قد تكون فاعلة كسبق الإصرار أو الليل أو العزم؛ وقد تكون منفعلة كالجهل أو الشك أو التردد أو خلو الذهن. فإذا كانت منفعلة كانت ضعيفة لا يحتاج في قهرها إلى الوسائل البلاغية القوية؛ فالمرء يجهل أو يشك أو يتردد ريثما يتهيأ له أن يعلم أو يستيقن أو يجزم؛ وهو في مثل هذه الأحوال تكفيه الحقيقة البسيطة للاستفادة من (التعليم). وقد يكون مع الجهل زيف العلم، واعتساف الحكم، وخطل الرأي الثابت باستمرار العادة، وفساد الوهم القائم على قوة القرينة. وحينئذ لابد أن تتناصر قوى العقل جمعاء على كسر هذه المقاومة من طريق البرهان؛ وذلك عمل الجدل، والجدل عصب البلاغة. وربما حدث مع ذلك كله أو بدون ذلك كله، فتور في الطبع فلا ينشط الحديث ولا يرتاح إلى رأي. وهنا يجب على صاحب