ولم يطل ذلك الحديث فقد رأيت الصفرة تغشي وجهه الخجل يتزايد في عينيه؛ فالتفت فإذا هي مقبلة تحمل جرتها، ورأيتها حينما دنت منا قد أخذتها ربكة المفاجأة فأضطرب هيكلها ثم أسرعت فأخفت وجهها بطرحتها. . . وبدا لي فناديتها حين مرت فأبطأت ولكنها لم ترد ولم تلتفت، فأكدت، فوقفت ثم تغاضبت فأقبلت في حياء شديد، فصحت بها لتقدم وإلا نهضت فجئت بها على رغمها، فجاءت ووضعت يدها في يد خطيبها ثم انتزعتها مسرعة دون أن تتكلم، وأشرت إليه فحط عنها الجرة وأرغمتها على الجلوس، فجلست إلى جانب المصلى تحجب طرحتها نصف وجهها المتورد الجميل.
وانعقد لسان الجندي فلم يدر ماذا يقول (فأنقذت الموقف) أنا بامتداحي حياة الجندية وبثنائي في عبارة يفهمانها على أولئك البواسل الذين يفتدون بلادهم بأرواحهم. . . ولمعت عينا الجندي الشاب، ثم تندت بدموع الفرح وأنسته الحماسة خجله؛ فقال وهو الذي كان يحمل الفأس بالأمس انه يفتدي بلاده بدمه إذا لزم الفداء. . . ونظرت إليه الفتاة نظرة لم أر فيها إلا معاني الإعجاب والارتياح؛ ونهضت قائلاً إني أتركهما برهة ليقولا ما بنفسيها.
وعدت إذ رأيته يضع على رأسها الجرة وواجهتني ذاهبة، فإذا هي مستبشرة راضية تكتم ضحكتها؛ ودنوت من ذلك الجندي أسأله لم لا يصف ذلك في موال من مواويله وهو ذلك الشاعر الذي ما عي لسانه في موقف. . . ولكنه لم ينطق بموال حينذاك، وإنما راح يتكلم عن حب الوطن وعن معاني الفداء والبطولة. ولشد ما أعجبني قوله (الواحد منا ما يستهلش خير بلاده إذا ما دفعش عنها بدمه، والراجل إيه فائدة عافيته وشبابه؟ يا ترى يقعد زي البنت؟) وأكد لي انه لا يأسف على فراق قريته في سبيل وطنه وله فيها من يهواها قلبه فحب بلاده فوق كل حب!
واستأذن الجندي الفلاح فوقفت أصافحه في حماسة وشيعته بنظرات الإكبار وهو يمشي مشية متزنة سريع، وعجبت كيف تغير الجندية عقلية هؤلاء الفلاحين بمثل هذه السرعة، وأثلج صدري أن أرى في ذلك الفتى المتحمس الدليل الحي على صحة ما يقوم أبداً في نفسي من أن هذا الذي يجيل الفأس في تربة وادينا الوديع الهادئ كفيل بأن يدير في يده السلاح بنفس المهارة إذا هو قلد السلاح. . . ومن أين جاءت جنود تحتمس ورمسيس وابراهيم؟ وكم بين هؤلاء السذج زرق الجلابيب من قادة أمجاد وعلماء أفذاذ وشعراء