للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نهاره البصرة كلها في كفن أبيض، فما بقيتْ في نفس رجلٍ ولا امرأة شهوةٌ إلى الدنيا، وفرغ كل إنسان من باطلة كما يفرغ من أيقن أنْ ليس بينه وبين قبره إلا ساعة؛ وظهر لهم الموتُ في حقيقة جديدة بالغة الروع لا يراها الأبناءُ في موت آبائهم وامهاتهم، ولا الآباء والأمهاتُ في موت من ولدوا، ولا المحب في موت حبيبه، ولا الحميم في موت حميمه؛ فإن الجميع فقدوا الواحد الذي ليس غيره في الجميع؛ وكما يموت العزيزُ على أهل بيت فيكون الموتُ واحداً وتتعدد فيهم معانيه، كذلك كان موتُ الحسن موتاً بعَدَدِ أهل البصرة!

ذاك يومٌ اشتد فيه الموتُ وكبر، وانكمشت فيه الحياةُ وصغرتْ، وتحاقرت الدنيا عند أهلها، حتى رجعت بمقدار هذه الحفرة التي يُلقى فيها الملوكُ والصعاليكُ، والأخلاطُ بين هؤلاء وأولئك، لا يَصغر عنها الصغير، ولا يكبرُ عنها الكبير؛ لا بل دون ذلك حتى رجعت الدنيا على قدر جيفة حيوانِ بالعراء، تنكشف للأبصار عن شوهاء نجسةٍ قد ارمت لا تُطاقُ على النظر ولا الشم ولا على اللمس؛ وما تتفجر إلا عن آفة، وما تتفجر إلا لهوام الأرض

تلك هي الذكرى، وأما الرؤيا فقد طالعتني نفسي من وجه هذا الفتى فأبصرتني حين كنتُ مثله يافعاُ مترعرعاً داخلاً في عصر شبابي، فكأنما انتبهتْ عيني من هذه النفس على فاتكٍ خبيثٍ كان في جناياته في أغلاله في سجنه، ومات طويلاً ثم بُعث!

إني مخبركم عني بما لم تحيطوا به، فارْعُوه أسماعم، واحضروه إفهامكم، واستجمعوا له، فانه كان غيب شيخكم، وأنا محدثكم به كيلا ييأسَ الضعيف ولا يقنط يائس، فإن رحمة الله قريبٌ من المحسنين

لقد كنتُ في صدر أيامي شرطياً، وكنت في آنفة الحداثة من قبلها أتفتى وأنشطر، وكنت قوياً معصوباً في مثل جبلة الجبل من غلط وشدة، وكنت قاسياً كأن في أضلاعي جندلةً لا قلباً، فلا أتذمم ولا أتأثم؛ وكنتُ مُدمِناً على الخمر، لأنها روحانية من عجز أن تكون فيه روحانية، وكأنها إلهيةُ يزورها الشيطانُ - لعنهُ الله - فيخلق بها للنفس ما تحب مما تكره، ويُثيبها ثواب ساعةٍ ليست في الزمن بل في خيال شاربها. وكأن جَهْلَ العقلِ نَفْسَه في بعض ساعات الحياة هو - في علم الشيطان وتعليمه - معرفةُ العقل نفسه في الحياة!

فبينا أنا ذاتَ يوم أجول في السوق، والناسُ يفورون في بيعهم وشرائهم، وأنا أرقب السارق وأُعد للجاني، وأتهيأ للنزاع - إذ رأيت اثنين يتلاحيان وقد لبّب أحدهما الآخر؛ فأخذت

<<  <  ج:
ص:  >  >>