ولسنا نقف طويلاً عند حوادث هذا الصراع الأخير بين الإسلام والنصرانية في الأندلس؛ فهي تملأ فصولاً طويلة مؤثرة في الروايات العربية والإفرنجية؛ ويكفي أن نقول أن غرناطة دافعت عن نفسها دفاعاً مجيداً، ولم تدخر لاجتناب قدرها جهداً بشرياً؛ وان فروستها الشهيرة بذلت بقيادة زعيمها موسى ابن أبي الغسان أشجع فرسان عصره، ضروباً رائعة من البسالة، وخرج المسلمون من مدينتهم المحصورة غير مرة واثخنوا في النصارى. ولكن الضيق كان يشتد بالمدينة المحصورة يوماً فيوماً، وتقل مؤنها شيئاً فشيئاً، ويتساقط جندها تباعاً. وكانت مدى الربيع والصيف تستمد بعض المؤن من جهة البشرات من طريق جبل شلير فلما دخل الشتاء غطت هذه السهول والشعاب بالثلج الكثيف؛ وازدادت غرناطة ضيقا، واشتد بأهلها الجوع والمرض، وهم أبو عبد الله بمفاوضة فرديناند في التسليم غير مرة لو أن كان يمنعه موسى بن أبي الغسان وتحمله الحماسة العامة، فلما اشتد الخطب تقدم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك، وقرر أن المؤن تكاد تنفد، وان الجوع أخذ يعصف بالشعب، وان الدفاع عبث لا يجدي؛ واتفقت كلمة الزعماء والقادة على التسليم؛ وتم الاتفاق على أن تسلم غرناطة بشروط كثيرة أهمها أن يؤمن المسلمون على أنفسهم ودينهم واموالهم، وانتمس مساجدهم وشعائرهم وشرائعهم وتقاليدهم؛ وان يجوز منهم إلى المغرب من شاء وهكذا أذعنت غرناطة وسلمت، وانتهت دولة الإسلام بالأندلس (صفر ٨٩٧هـ ديسمبر سنة ١٤٩١) وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة الرائعة من تاريخ الإسلام، وقضى على تلك الحضارة الأندلسية الشامخة وآدابها وعلومها وفنونها وكل ذلك التراث الباهر بالفناء والمحو، ودخل النصارى غرناطة في الثاني من ربيع الأول سنة ٨٩٧ (٢ يناير ١٤٩٢) واحتلوا حمراءها وباقي قصورها وحصونها وخفق علم النصرانية ظافراً فوق صرح الإسلام المنهار.
أما الملك التعس أبو عبد الله فقد قضت معاهدة التسليم ان يغادر غرناطة مع أسرته إلى البشرات وان يحكم هذه المنطقة باسم ملك قشتالة وفي طاعته وان يكون مقره في قرية اندرش. ولما ذاعت أنباء التسليم اضطرم الشعب غضباً وسخطاً على أبي عبد الله واعتبره مصدر كل مصائبه ومحنه؛ فبادر أبو عبد الله بالأهبة للسفر مع أسرته وخاصته وحشمه، وبعث بأمواله ونفيس متاعه إلى مقره الجديد في اندرش. وفي نفس اليوم الذي دخل