يسقط في الحفرة الواحدة خمسين مرة، ثم لا يجتنبها ولا يبتعد عنها. . .
ونظرت في (المنظار) فلم أر في وجهي. . . إلا سوءات مكشوفة و (أوساخاً) ظاهرة؛ وبلايا من هذه البلايا. . . فكدت من غضبي أكسر هذا (المنظار) المسحور الذي ينظر فيه الأستاذ محمود فيرى (زهرتي) الوزارة، ويبصر غادة (الحمار الآخر)؛ وأنظر أنا فلا أرى إلا الأوساخ والسوءات، ورفعته عن عيني، وأنعمت النظر. . . فإذا الذي أراه حقيقة كنت أمر بها فلا أتنبه لها، لتعودي عليها، وتنبهت لها الآن لما ركبت على عيني (المنظار)، وهي أن الطريق الذي أسلكه كل يوم من داري إلى جسر الملك الصالح وأحسبه نزهاً جميلاً، قد فاض بالأقذار من الجانبين، فمن هنا هؤلاء الناس من الرجال: الشيب والشبان، والأولاد: البنات والصبيان، والنساء أحياناً. . . (حتى النساء!) يدعون جميعاً بيوت الطهارة وهي أمامهم: فيها الماء، وعليها الحارس، وفيها الستر والنظافة، و (يقضون حاجاتهم) على طول (الشط) أمام الناس، ومن هناك البنات المصريات في آخر الشارع، والأولاد المصريون في أولهن يدعون جميعاً المدارس المصرية الطاهرة النظيفة، ويقصدون هاتين المدرستين الإنكليزيتين، ويفتحون أدمغتهم للإنكليز وصنائعهم من أصحاب الأغراض والحاجات، ليحققوا فيها
أغراضهم، و (يقضوا حاجاتهم) ويجعلوا عشاً لكل وباء وكل مرض، يضعف الوطنية، ويؤذي الدين. وإذا طهر الشط من أقذاره الكناس، ورشاش (الدالين)، فلن يطهر البلد من أقذار هذه المدارس، إلا أن تكنسها الحكومة من أرض مصر، وتلقيها وأهلها في البحر. . .
وركبت الترام وأنا مغيظ مما رأيت محنق، فرأيت (المنظار) على عيني، ما سلاني وسرى عني، رأيت أمامي وجهاً حلواً، دقيق القسمات، نظيفاً لم تنزل ساحته الأصباغ، ولامسته يد التجميل، ولكن جمله ربه، وصبغه بصبغته. . . ومن أحسن من الله صبغة؟ فيه عينان زرقاوان، وفم متجمع مستدير ناضج الشفتين، فوق شعر أشقر، لا هو بالطويل المسترسل، ولا هو بالقصير المحلوق، وسوالف ليست مقطوعة كسوالف الرجال، ولا مطلقة كسوالف النساء، على جسم قد غطته سراويل سابغة، ورداء له أكمام طويلة، تبرز منها يد بضة ملفوفة، ما تعرف أهي يد بنت مدللة، أم يد غلام مترف، والعمر في نحو الخامسة عشرة، فجعلت أتساءل حائراً: هل هذا شاب أم فتاة؟ وحاولت أن أجد علامة دالة، أو أمارة ظاهرة،