فعدمت العلامات، وخفيت عني الأمارات، وطالت حيرتي حتى لقد هممت أن أمد يدي فأتلمس. . . ومنعني أن أفعل أني استحييت وخفت العواقب، وأن الشاب قام، أو أن الفتاة قامت، فنزل، أو نزلت، وكل راكب في الترام يتساءل مثل تساؤلي، ويحار مثل حيرتي!
وركب مكانها (أو مكانه)، امرأة فرنجية كأنها من لطافتها. . . (سيد قشطة) تجر وراءها ثلاثة: ولدين كالخنزيرين السمينين، لا يعرف طولهما من عرضهما إلا بالقياس، وعجيزة مثل كيس التبن. . . وصلت هي إلى المقعد، ولا تزال العجيزة تصعد السلم، ثم جلست بين الرجلين على طرف المقعد، وهي تلهث كأنها قاطرة حلوان. . . ثم اندفعت في المقعد فضغطت الرجلين، فأدخلت واحداً في الزاوية من هنا، وواحداً من هناك، وأقعدت الخنزيرين (أي الولدين) على الركبتين، وتنفست الصعداء بعد هذا الجهد، فكانت نفخة مفاجئة أطارت جريدة كانت في يد الراكب أمامها. . .
وأقبل الجابي (الكمساري) وهو رجل أسمر طويل، عبوس الوجه، متين البناء، له شاربان كساريتي مركب، فقال لها:
- فلوس!
فمدت إليه يدها بثمانية مليمات، كأنها تمدها إلى سائل، فقال لها:
- هنا بريمو، خمسة عشر مليماً.
فرفعت إليه هذه الكرة المفلطحة التي تسمى في جغرافية جسمها (رأساً)، ولوت شدقها، وصعرت خدها، ومدت شفتها، حتى صار وجهها مثل القرعة اليابسة، وقالت:
- أنا ما بياطي، أنا مش آهد كويس.
- خمسة عشر مليماً يا مدام.
فغضبت، وصاحت:
- أنتي مسريين ما بسير لتيف أبداً، بيتم متوهش!
فأسرعت أنزع (المنظار) لألعن أباها، ومن جاء بها إلى مصر، ولكني وجدت (الكمساري) قد سبقني إلى هذه المكرمة، ورأيته قد انقلبت عيناه في أم رأسه، واصفر وجهه حتى صار كقشرة الليمونة، وارتجفت شواربه، ولكنه تماسك وتثبت، وصفر فوقف الترام، وقال لها:
- لو كنت رجلاً لرأيت، ولكنك امرأة، ونحن لا نمد أيدينا إلى النساء، فقومي انزلي. . .