للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فانظر لقولي تجد نفسي مصورة ... في صفحتيه، فقولي خط تمثال

شكا البارودي إلى شعره هذه الغربة الطويلة، والوحدة التي أضطر إليها، وهو يردد هذه الشكوى في كثير من قصائده، فحينا يقول:

أبيت في غربة لا النفس راضية ... بها ولا الملتقى من شيعتي كثب

فلا رفيق تسر النفس طلعته ... ولا صديق يرى ما بي فيكتئب

وحينما يشبه نفسه بطائر ترك فريداً بين الأدغال، وقد غال الردى والديه فتركاه صغيراً لا يستطيع النهوض، ولا أن يصون نفسه ممن يريد به السوء، يرتاع كلما سمع صوت البزاة، بل إنه ليفوق هذا الطائر بما يحس به من الجوى، وما يذرفه من الدمع فيقول:

لا في سر نديب لي إلف أجاذبه ... فضل الحديث ولا خلّ فيرعى لي

فلو تراني، وبردى بالندى لثق ... لخلتني فرخ طير بين أدغال

غال الرّدى أبويه فهو منقطع ... في جوف غيناء لا راع ولا وال

أُزَيغب الرأس لم يبد الشكير به ... ولم يصن نفسه من كيد مغتال

يكاد صوت البزاة القمر يقذفه ... من وكره مبين هابي الترب جوّال

لا يستطيع انطلاقاً من غيابته ... كأنما هو معقول بعقال

فذاك مثلي، ولم أظلم، ورّبتما ... فضلته بجوى حزن وإعوال

شوق ونأي وتبريح ومعتبة ... يا للحميّة من غدري وإهمالي

ولقد كان أثر هذه الوحدة في نفسه قوياً، حتى صار أكبر آماله في منفاه أن يجد الصديق الوفي المخلص:

لم يبق لي أرب في الدهر أطلبه ... إلاّ صحابة حر صادق الخال

ولو كان البارودي قد وجد في مغتربه الخل الوفي لخفف قربه آلام نفيه، وعذاب اغترابه، فاضطر - كما قلنا - إلى أن يتصل بمن لا يشتهي قربه، ولا تأنس نفسه إليه، وظل يهتف باحثاً عن صديق يسره ويقول:

فهل من فتى يسري عن القلب همه ... بشيمة مطبوع على المجد مسعف

رضيت بمن لا تشتهي النفس قربه ... ومن لم يجد مندوحة يتكلف

ولو أنني صادفت خلاّ يسرني ... على عدواء الدار لم أتلهف

<<  <  ج:
ص:  >  >>