حوصر المسلمون في الشعب، ونقضت الصحيفة، ومات أبو طالب وخديجة، وازداد أذى قريش، وردته القبائل عما كان يدعوها إليه من الدخول في الإسلام؛ وتوالت السنون على هذا الحال، فكان من الطبيعي أن يفكر النبي عليه الصلاة والسلام في مخرج حاسم يفرج الكرب ويزيل المحنة ويفسح مجال الأمل ويوطد الأمر. وأحسب أن من الطبيعي والمعقول أن يفكر في يثرب أول ما يفكر، وأن تكون هذه أبرز ما يبرز وأول ما يخطر على البال وأسبق ما يرد على الخاطر، فقد كانت يثرب طريقه في الزمن السالف أيام كان يعمل في التجارة، ولم تكن طريقه فقط بل كانت له بها علاقة تجارة أيضاً؛ وله فيها عدا ذلك بعض ذوي القربى ونعني بهم أخوال جده من بني النجار؛ ثم أن أباه عبد الله بن عبد المطلب مدفون فيها، وقد كانت أمه في حداثته تزور هذا القبر في كل عام، وكانت تستصحب ابنها معها. وقد شاء القدر أن تمرض أمه وهي عائدة من إحدى هذه الزيارات وأن تموت وتدفن في الطريق بين مكة ويثرب. فما من شك في أن يثرب كان لها نوطة بقلبه وعلوق بنفسه فما يسعه أن ينسى طفولته ويتمه وأباه الدفين هناك وأمه الراقدة في الفلاة على طريقها
وقد كان النبي صلوات الله عليه يعرض نفسه على القادمين من يثرب كما كان يعرض نفسه على رجال القبائل الأخرى، فأسلم أولا من الأوس واحد، ثم أسلم من الخزرج نفر استجابوا لدعوته وحدثوه بما بين الأوس والخزرج من العداوة التي بثها اليهود فيهم ليظفروا بهم ويتحكموا فيهم. وكان اليهود قد نجحوا في إيقاد نار الفتنة بين هاتين القبيلتين، ولكنهم نجحوا في أمر آخر لم يكونوا يقصدون إليه، فقد كان اليهود وهم أهل كتاب يذمون إلى الأوس والخزرج ما هم فيه من الوثنية والشرك ويحدثونهم دينهم عن وكتابهم، فتركوا في نفوسهم أثراً روحياً لم يكن لمثله وجود في أهل مكة. وقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام هذا كله وعرف أيضاً أن الفريقين المتعادبين - الأوس والخزرج - قد فطنوا إلى ما هم فيه من الشر، وانتهوا إلى أن يجمعهم الله بعد طول العداوة، وأدرك أن دعوته خليقة أن تلقى هناك من حسن الإصغاء وطيب القبول ما لا تظفر بمثله في مكان آخر وبلد غير يثرب. وقد صدق ظنه وتفتحت القلوب في يثرب لدعوته؛ ولم يمض إلا عام واحد حتى جاءه رجال من يثرب يبايعونه البيعة التي تعرف ببيعة العقبة الأولى على ألا يشركوا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يكذبوا ولا يعصوا الله. ومما يدل على قيمة هذه البيعة أن النبي