وهاتان الحالتان تكفيان لأشقاء فرد في العراق لا مال له ولا سلطان، ولا يعتمد اعتماد القرابة أو النسب على ذوي المال والسلطان. ولذلك كانت حياته سلسلة من تشرد ضيق الحدود، فيه فوق صفة التشرد التزام الحشمة التي ينبغي على رجل كالرصافي أن يؤدي جزيتها.
فمن غريب المفارقات أن الرصافي كان يستخدم اسمه وشهرته وحب الناس له في قضاء حوائج غيره ممن لا يرتدعون عن اللجوء إليه في طلب الشفاعات، ولعله كان أجدرهم بطلب الشفاعة لو أنه كان يأبه للضروريات، ولو أن نفسه تقيل التوسيط والرجاء.
ولقد نبذ الزي المدني منذ زمن والتزم زي البدو من العشائر، وسكن قبل مدة في الفلوجة إحدى القرى القريبة من بغداد، وعاش عيشة المتزهدين المتصوفين، ثم انتقل إلى الأعظمية قرب بغداد حيث ختمت بها أيامه.
وهذا التغير هو الآخر يدل على حبه للحرية، فإنه لم يرض أن يتقيد بالزي (الأفندي) وقبل أن يلتزم قيد اللباس العربي البدوي. ولعله لم يشعر بالنقلة شعور الذي يتفرج عليها، بل لعله لم يشعر بها مطلقاً.
لا أظن قلباً إنسانياً ينبض بحب الإنسانية لا تحركه هذه الكلمات البسيطة من وصية الرصافي التي كتبها قبل أن يموت
(لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها، وكل ما عدا ذلك من الأثاث الحقير الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. كل من اعتدى علي في حياتي فهو في حل مني. وإن كان هناك من اعتديت أنا عليه فهو بالخيار، إن شاء عفا عني، وإلا قضى بيني وبينه الله الذي هو أحكم الحاكمين).
في هذه الكلمات أتخيل الرصافي كالأسد الجريح. الأسد الذي هدت من حياته تصورات الموت وسخف الحياة الماضية. إن هذه النغمة ليست نغمة المستكين الضعيف، ولكنها نغمة القوي الذي وضح لعينه سخف القوة والأقوياء.
لقد كانت في حياة الرصافي عدة دروس جديرة بالاعتبار. ومما لا شك فيه أن ستقوم هنا وهناك حفلات التأبين، وسنسمع أصوات أولئك الذين يمجدونه ويلهجون بحمده وحمد شعره وآثاره. ولكن لن يكون لكل هذا من جواب من الرصافي نفسه، لو أنه يطلع عليهم من