فهش له الرسول ومسح على رأسه، وجعل يقرأ عليه، وإن صوته ليتجاوب بين قلبه وعقله، وجعلت كلمات التنزيل تتنزل على نفسه، كما تتنزل قطرات الماء على حلق يتحرق ظمأ، حتى شرح الله صدره للإسلام. ومضى الرسول وصاحبه، رضى النفس مغتبط الضمير. وخلفا عبد الله وقد ملكته نشوة هذا الأمر، وقد جعلت كلمات الرسول يتردد صداها بين سمعه وقلبه، وهو يحسب أنه قد ظفر بسعادة الأبد. وما يزال كذلك حتى يقبل الليل، فينطلق إلى دار الأرقم، يلفي الرسول وصحبه يتذاكرون آيات التنزيل، ويضرعون إلى الله أن يسدد خطاهم ويمكن لهم دينهم.
أي رجل هذا؟ شاب يافع محروم من أسباب القوة ووسائل المنعة، ليس له عشيرة يلجأ إليها، ولا عصبة يعتمد عليها. ضعيف في ذاته الجسمية، قضيف العظام مترهل العضلات مجرد من وسائل الحياة المادية، يعتمل نفسه لأشراف مكة في الخدمة ورعى الغنم، لقاء ما يحفظ عليه روحه ويمسك عليه الرمق. ثم لا يعبأ بعد هذا أن يخرج عليهم، وهو يعلم مقدار حميتهم لدينهم، وتعصبهم لأنفسهم، ولا يأبه لما لابد أن يصيبه في هذا السبيل من تصرم وسائله، واستهداف حياته في تعرضه لعداء سادته وهم من هم: سدنة البيت الحرام، والقوام على ميراث إسماعيل عليه السلام، والخيرة المتخيرة من أبناء العرب، وأصحاب الحول والطول في كل أنحاء الجزيرة.
ولكن عبد الله كان يملك من أسباب السماء بقدر ما حرم من وسائل الأرض. كان قوي النفس، متين الخلق، بقدر ما كان هزيل القوام ضعيف الجسد. كان يشعر بالسؤدد الروحي يوجهه ويملي عليه، وإن كان يضطرب في أسمال الخدمة وأهدام الحاجة. فلم تكن الضرورات المادية لتخضع روحه أو تغلب ضميره، وما كان للخوف أن يغشي بصيرته فيخلد إلى الأرض. وكذلك أنطلق مع روحه فاعتنق الإسلام وأخلص له، وأحب محمداً إلى غاية ما يبلغه الحب الروحي، فاصطفاه الرسول ليكون تابعه الأمين، وخادمه الذي ليس من دونه حجاب، فكان يرى وكأنه واحد من آل بيته، مما كان يركن إليه ويطمئن له ويتلطف معه ويحسن عشرته، فأخلص للرسول الإخلاص كله، ووصل حبه له إلى قرارة قلبه، حتى صار جزءاً من حياته، بل لقد اصطبغت حياته كلها به، وتأثر به في مخبره ومظهره، فكان أقرب الناس له سمتاً، وأدناهم إليه دلاً، وأشبههم به في سكينته ووقاره.