مضت الأيام والإسلام نجوى الضمائر، وحديث القلوب، وهمس الشفاه. والقرآن لا يعدو بيت الرسول ودار الأرقم وأطراف مكة القاصية. ثم جاء أمر ربك فأتيح للخافية أن تظهر، وللسر أن يستعلن، وللدعوة أن تأخذ سبيلها في وضح النهار؛ واجتمع ذلك النفر من المسلمين يتدبرون الأمر، وكانوا يعرفون موضع الإحساس الدقيق في نفس العربي، وموطن التأثر البليغ من قلبه: إنما هي تلك الحاسة البيانية المرهفة التي أمسكت بقياده، وسيطرت على حياته؛ وجاء القرآن وافياً بها متحكماً فيها؛ فكان من الطبيعي أن يكون سبيل الدعوة. فقالوا من لقريش يسمعها هذا الكلام؟ فانبرى عبد الله يقول: أنا لها. وهو يعلم مقدار ما يستتبعه هذا من الأذى، ولا عاصم له من قوم ولا عشيرة. فراجعوه في هذا الأمر، وبصروه بعاقبته، وذكروه ضعفه ووحدته؛ فأبى أن يفوته هذا الشرف، أو أن يرده عنه اعتبار لا قيمة له في ميزان المجد. فاعتصم بإيمانه القوي، ويقينه الثابت أن لا إله إلا الله، فلا نافع ولا ضار إلا الله، وأن لو اجتمعت الجن والإنس على أن ينالوه بشيء ما استطاعوه إلا بقضاء الله وقدره، وأحبب به أذى في سبيل الله وإعلاء كلمته. ثم تخير غداة الغد حين تكون قريش مجتمعة في أفناء الحرم حول الكعبة، يدبرون أمورهم، ويتحدثون عن أموالهم، ويتكهنون بمقادير أرباحهم ويتراهنون على ما يدور بخواطرهم، وتذهب إليه مطامعهم وتراوحهم به مخاوفهم. فلما كان موعده أقبل إلى البيت الحرام، واستقبل الكعبة بوجهه، وأخذ يتلو من كتاب الله:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).
أي صوت رهيب دوى في أرجاء الحرم، فالتفتت إليه أسماعهم، ودهشت له قلوبهم، واستطارت منه ألبابهم، وأذهلهم عماهم فيه من حجاج ولجاج في تجارتهم وحياة أموالهم؟! فانصرفوا إليه يقولون: ما شأن ابن أم عبد وماذا يقول؟ فلما علموا أنه يتلو بعض ما جاء به محمد أقبلوا عليه يضربونه في وجهه ويدفعونه في صدره، ما شاءت لهم الحمية ونخوة الجاهلية، حتى نالوا منه وتركوا آثار الدم في وجهه. ثم عاد إلى أصحابه وهو يقول:(ما كان أعداء الله قط أهون على منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً) فقالوا له: حسبك.