استشرف عبد الله إذن لعواصف النكير والاستهزاء، واستهدف لسهام التنكيل والاعتداء. إن كان في بيت الرسول فهناك جيرانه: أبو لهب وعقبة بن أبي معيط والحكم بن العاص وعدي بن حمراء الثقفي يترصدون له وينالون منه. وإن كان في السوق فما شاءت جماهير قريش من أذى وتجهم وسخرية، وإن كان في المسجد، وقد جلس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في المستضعفين من أصحابه فكذاك؛ وما يفتأ القوم يمرون بهم، فيتغامزون عليهم ويسخرون منهم، ويقول بعضهم لبعض:(أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا، ولو كان خيراً ما سبقونا إليه).
وهكذا مضت الأيام بعبد الله، وما يزيده هذا إلا صفاء في نفسه، وصلابة في يقينه، واستشراقاً لهدى الله جل شأنه، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وصنعت منه هذه الخطوب ما تصنع حرارة الأرض وضغطها من الماس وكرائم الأحجار، فأصبح كالماسة الصافية صلابة وإشعاعاً.
فلما اعتدل ميزان الأمور، وتمت كلمة ربك الحسنى على المسلمين، وأصبحت القوة في جانب الحق، وأصبح الإسلام في يثرب صاحب الكلمة، كان عبد الله سيفاً قاطعاً ونجماً ساطعاً، فشهد المشاهد كلها مع رسول الله، لم يقعد به ضعفه. ولم يخلفه هزال جسمه، إذ كان قوي القلب ثابت الإيمان. وكانت بصيرته في الدين قوية الإشعاع دائمة السطوع، حتى لقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بعهده، وشهد له كبار الصحابة كعلي وحذيفة، ومكانهما من هذا الأمر ما نعلم، وكان من العلم بالقرآن في المكان المرموق: ما من سورة في القرآن أو آية من سورة إلا وهو يعلم سبب نزولها، ومكان مجيء الوحي بها، لا ينكر عليه ذلك منكر. ولقد كان إيمانه يتلألأ في قراءته كما كان يتألق في جبينه؛ حتى كان يحبب إلى رسول الله أحياناً أن يسمع القرآن منه. فقال له مرة: اقرأ عليّ سورة النساء. قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عليه حتى بلغ قوله تعالى مخاطباً رسوله:(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً) فبلغ التأثر من الرسول مبلغه، وفاضت عيناه بالدموع.