وحين نذكر فصاحة منطقه، وخلوص لسانه، لا ننسى أنه هذلي الأصل، مع عرق فيه يمت إلى زهرة؛ ثم هو مع هذا قرشي المولد والمربى؛ فلا غرو أن كان جيد الأداء حسن القراءة، بعد أن اجتمعت له مقومات لسانه ونصاعة إيمانه.
انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، فانتقلت الدعوة إلى الشمال، تكافح بالسيف ولاة فارس وعمال الروم، فما كان أسرع عبد الله إلى الجهاد في سبيل الله، وقد مكن له فقهه وبصره وورعه أن يتولى أمر الأنفال، فكان لا يفتأ فيما بين هذا يعلم القرآن، ولا يترك فرصة دون أن ينتهزها لتفهيمه والتبصير به، وإنه لجالس ذات مرة في حمص وقد جيء إليه بسبائك من الفضة، فجعل يذيبها، وإنها لتتلون ألواناً، فرأى في ذلك صورة بينة للمهل الذي جاء به القرآن، فالتفت إلى أصحابه يقول لهم: أتدرون ما المهل؟ هذا أشبه شيء به. لله أنت يا ابن مسعود! ما كان أبصرك بكتاب الله وأحرصك عليه!
ثم بعثه عمر إلى أهل الكوفة معلماً حين بعث عماراً عليهم أميراً، وكتب إليهم هذه العبارة التي تدل دلالة واضحة على قيمة ابن مسعود في نظر أصدق الصحابة بصراً، وأنفذهم رأياً، وأعرفهم بقيم الرجال:(إني بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله ابن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي) وكفى بهذه الجملة الأخيرة شاهداً بمكانة الرجل.
فلبث فيها ما لبث قيما على بيت المال، قائماً بتعليم القرآن وبث تعاليم الإسلام، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان فوق هذا يضرب بخلقه وورعه خير الأمثال، حتى كان أصحابه يقولون:(ما رأينا رجلاً أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعاً من ابن مسعود). فكون فيها مدرسة تحبه وتتعصب له، فلما كان عثمان وأخذ يقلب بين الولاة والعمال، بعث إلى ابن مسعود يستقدمه إليه، فجزع أصحابه أيما جزع، واستشعروا أثر النازلة، إذ يوشك أستاذهم الذي وهبهم قلبه وألهمهم حبه أن يفارقهم، فاجتمعوا إليه يرجونه أن يقيم بينهم، وله عليهم أن يمنعوه مما عسى أن يصل إليه من مكروه، ولكن عبد الله ما كان ليعبأ بالمكروه يصيب شخصه، فما أهونه في ذات نفسه لقاء الخير يصيب أمته، ولكنه كان يرمي ببصره إلى ما وراء الشخوص الماثلة أمامه، فيرى