للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بيني وبين نفسي كيف يسع هذا الرجل أن يضحك أحداً كائناً ما كان ما يغنيه أو يعزفه. وكان الشابان يكلمان الرجل بالألمانية التي لا نعرف منها حرفاً. وجلس الرجل إلى البيانو وشرع يدق فلم يبد لنا - أو على الأقل لي - أن في الأمر ما يضحك؛ وكان جاداً وكان وجهه ساهماً كأنه يحلم، وغنى وهو يدق بصوت عميق قوي فالتفت إلى أحد الشابين فألفيته يبتسم فقلت: أبتسم مثله وأستر جهلي باتخاذه قدوة، وصرت بعد ذلك أخالس الشابين أو أحدهما النظر وأفعل كما يفعلان فإذا ابتسما ابتسمت، وإذا ضحكا ضحكت، وإذا قهقها أطلقتها مجلجلة؛ ولم أكن وحدي في هذا الاحتذاء فقد كان المدعوون مثلي جهلاء - أعني باللغة الألمانية - وقد خطر لهم كما خطر لي أن يحاكوا الشابين. وكنت ربما عجبت لمطربنا فقد كان إذا ضحكنا أو قهقهنا يرمينا بنظرات حامية فالتفت إلى الشابين مستغرباً ما يبدو عليه من الغضب والغيظ والنقمة فهمس في أذني أحدهما أن هذا هو المضحك. . . هذا الجد الصارم على الرغم مما في القطعة التي يغنيها وما في تلحينها من الفكاهة الواضحة فهززت رأسي كأني فهمت وازددت اقتناعاً بأن الأمر مضحك ولاشك ورحت أقهقه. ثم استغنيت عن النظر إلى الشابين والاقتداء بهما ورحت أضحك على مسئوليتي كما يقولون وخلعت ثوب الجهل والتقليد، ولبست ثوب الدعوى العريض الفضفاض

وأخيراً نهض الرجل عن كرسيه وأدار فينا عيناً تقذف بالشرر وخرج مغضباً محنقاً يبرطم ويبرجم ونحن نتبادل نظرات الإنكار لهذا السلوك العجيب فهل كان ضحكنا يا ترى أقل مما يجب؟ هل خيبنا أمله ببلادتنا؟ لا بل بجهلنا فقد كان ما يغنيه قطعة مبكية من مأساة مشهورة، وكان الرجل المسكين يعتز بأدائها على الوجه الصحيح، فكاد يجن إذ كنا نتلقى ذلك بالهزء والسخرية. وقد اعتذرنا إليه بعد بضعة أيام - لما فهمنا الحقيقة وعرفنا أنها كانت مزحة قبيحة - ولكن المسكين كان قد تعذب ليالي لا ليلة واحدة.

إبراهيم عبد القادر المازني

<<  <  ج:
ص:  >  >>