للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كل مكان يئنون ويصيحون في حشرجة ورحير مما بهم من ألم وعذاب. فمضيت بينهم إلى حيث كان ذلك الغلام - قارع الطبل - راقداً وجواره طبله ملقى. . . فلمحت وجهه فإذا به (روبرت).

ولم أكن في حاجة إلى وصف ذلك الرجل الجريح ولا إلى البرودة التي سرت إلى جبينه. . . لكي أعرف أن ليس ثمة من أمل في حياته - ناديته باسمه؛ ففتح عينيه وعرفني. . . وقال في صوت هامس فيه ضعف يسري (إني لمسرور بلقائك. . . ولكن أحسب أن القضاء حم ولا مفر من الحمام)، فلم أجد في نفسي القدرة على أن أكذبه القول، ولا القدرة على أن أخبره بالحقيقة، فأمسكت بيده وضغطت عليها في رفق ولطف أحثه على التجلد، وتابع حديثه في صوت أوهن وأضعف.

(. . . ولكنك سترى والدي، فاسأله أن يغفر لي، ويصفح عني، وقد يلام كل إنسان سواي، لقد تقضي وقت طويل قبل أن أدرك علة إرسال هذا الطبل لي كهدية في عيد الميلاد! وكذلك علة هذا النداء الذي ظل ينبعث من دقاته يدعوني ويدعوني. . . وأخيراً عرفت ما كانت تدعوني إليه، وإني لراض بما فعلت، فبهذا تحدثني نفسي: خبّر والدي أن هذا أفضل من لبثي معه، أنغص عليه عيشه، وأكدر عليه صفو حياته، لما يعتريني من شذوذ واضطراب ومرض).

وتوقف حديثه هنيهة، ثم إذا به يمسك يدي ويقول: (انصت!). . . فأصخت السمع، ولكن لم يطرق أذني سوى أنات الجرحى وزحير المرضى، فقال في صوت خافت: (الطبل! ألا تسمعه؟ إنه يدعوني)، ومد راحته إلى حيث ألقى طبله كأنه يود لو عانقه، وعاد يقول: (انصت! أفلا تسمع دقات الطبل وهي تنبعث في رهبة وجلال؟! ها هي الصفوف تنتظم. . . أفلا ترى الحراب والأسنة وهي تتألق تحت شعاع الشمس؟! إن وجوههم مشرقة طلقة يعلوها البشر والرضا. . مه! ها هو القائد إنه ينظر إلي وعلى ثغره بسمة الرضا والبر!) وانطبقت شفتاه، وارتخت أهدابه على عينيه، وسكن سكنته الأبدية!!

(طنطا)

مصطفى جميل مرسي

<<  <  ج:
ص:  >  >>