للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الفانلا فبدت على وجهه الدهشة وصاح بسرعة وهو يشير إليها قائلاً: (انظر!)

فأحنى الشاب رأسه ناظراً إلى الفانلا فرأى فوق القلب دائرة مسودة من أثر احتراق خفيف. فاستولت عليه الدهشة وجلس في فراشه وهو يتساءل: (ما الذي صنع بي هذا!)

فضحك الدكتور بصوت عال وقال: (هاأنت ذا تكشف حمى جديدة يا دكتور!). وخطرت للشاب فكرة فالتفت إلى المشجب وقفز من الفراش واتجه نحوها ووضع يده في جيب الجاكتة الأعلى متناولاً غليونه، وفحص الجيب بعينيه فرأى آثار التبغ الذي أكل البطانة وحرق القميص وأثر هذا التأثير في الفانلا، ووقف مرتبكاً ينظر إلى الدكتور بعينين تسألان الصفح، وقد أحس بحرارة جديدة هي حرارة الخجل والارتباك

وبعد دقائق وجد الشاب نفسه وحيداً مرة أخرى، وكان ما تزال تعلو شفتيه ابتسامة الارتباك والخجل ولكنه كان يحس بغبطة وسلام، وكان قلبه يشكر الله الذي وهبه حياته مرة أخرى

وبر الشاب بوعده واعتزم أن يكون إنساناً قبل كل شئ، وعاد إلى عمله تنبض في قلبه أشرف العواطف وأنبلها، وكان يظن أنه سيصمد للتجارب لا ينكص على عقبيه مهما امتد به الزمن، ولكن وا أسفاه إن انقضاء الليل والنهار ينسى، ومن ينغمر في الدنيا يذهل عن نفسه، وللحياة جلبة تبتلع همسات الضمير، فقد أخذ يتناسى محنته ودعاءه ووعده حتى نسى ولم يعد يذكر إلا عمله ومستقبله وآماله وأطماعه، ثم ارتد إلى ما كان عليه، وكانت تلك الأيام القلائل في حياته كهدوء البحر الذي يصفو ويرق حتى يشف عن باطنه ثم لا يلبث أن تهيجه الرياح والعواصف فيرغي ويزبد وتعلو أمواجه كالجبال. ولعله لا يذكر هذه الحادثة الآن إلا كدعابة يتندر بها ويقصها على صحبه إذا دعا داعي الحديث أو السمر!

نجيب محفوظ

<<  <  ج:
ص:  >  >>