لم ير شيئاً سوى وجوهٍ كالحة ساخرة مجرمة. وتخافتت الأصداء، وسكنت الأقدام، ولكن أقدام ماريا لم تخفق معها هذه المرة، ولم تندمج في الصف الذي اندمجت فيه من قبل في حفل ترهبها. وهاهي ذي فوق أكتاف الراهبات يحملن منها صدفتها المرمرية الهشة. وهاهي ذي وخزات الآس الدامية ينقلها (برجوليزي) إلى لغة اللحن في أنات طويلة علوية
ولما أوصد الباب للمرة الأخيرة، وانتهت المراسيم الحزينة، تقدم برجوليزي وهبط عن منصته ثم جمع أوراقه التي سطر فيها أساه واحدة فواحدة، وعدها ببطء ودقة. ولما تأكد من أنه لم يترك منها شيئاً. تقدم إلى المذبح. ويحه ماذا يريد؟ وعلى أحد الشموع الكبيرة التي قدمت حياتها قرباناً لتضيء ساحة بيت الله، ألهبت ناراً في عصارة قلبه، في هديته الأخيرة لماريا ملهمته، ولما اسودت الأوراق، وتلوت ثم ترامت في ألم على الأرض، صاح في أسى وحرقة:
لقد لحنتها لماريا! لماريا وحدها. إنها لحني الأخير لموكبها. إنها سلامي الأخير لها، ووداعي الأخير لروحها. ولن تكون إلا لها. دائماً أبداً لن تكون
ولم يعلم أحد هل كانت هذه البقايا المحترقة هي معجزة برجوليزي التي جمعها الراعي في الصباح
لم يعلم أحد هل كانت هذه البغايا المرتعشة في مهب الريح هي (النغم الضائع) أو الوتر المنزوع من قيثارة (جيامباتسنا)
ولم تنتظر ماريا طويلاً. فلم تمض سنة حتى كان جيامباتسنا برجوليزي في قرية بوزيولي، قريباً من نابلي، وقد امتنع عن العزف، وامتنع عن الشكوى والنواح
وارتفع إلى السماء ليعزف لها هناك على قيثارة الروح الأناشيد التي وضعها لها على الأرض