للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مأساة أعمق من أن تصل إليها الألفاظ والجمل. لقد كان الرهبان يصيحون: (مرحباً بعروس البيعة)، ورنت أصواتهم في كل أذن سمعتهم. أما أذن العروس، وأما أذن رئيس العازفين فقد سمعتا مأربا كل نغمة تصيح: وداعاً. وداعاً رمى بها الأفق، وداعاً ابتهل بها الرهبان. وداعاً نطق بها دخان البخور وقد صعد يتلوى في زرقته إلى الله. إنه لم يترنم في صعوده برسالة حبيب إلى السماء، بل لقد كان يصيح وداعاً ويتلوى لرسالته من الألم! وتخافتت الأصوات، وسكنت الأقدام ووقف برجوليز وحيداً مرفوع الرأس مديراً بعصاه أنغام العازفين وحركاتهم

لقد كان جديراً حقاً ذلك الحفل بأن يضع على رأسه أكاليل الغار، ولكنه كان مأخوذاً مرعوباً لم يدر شيئاً، ووقف يحترق في لهبه، لقد كان فريسة لأساه، هشيما لنار جواه. وبكاها برجوليزي إلى العالم ولم تزل حية، لم يبك (الأخت فكتوريا) كما نادوها في الدير، بل بكى الحبيبة ماريا. لقد بكاها وهي في كهفها الضيق ولا من يسمع أناتها. إنك لتقرأ مأساتها كما قرأها من قبلك، وكما سيطالعها إلى الأبد الكثيرون في دمعته المحرقة في دمعته الصارخة ولا عجب أن كانت معجزة فلم يك أبداً فؤاد إنسان ذاك الذي لحنها، ولكنه فؤاد من ذهب روحي خالص نقي صهرته الآلام الملتهبة

لم يتمكن الزمن أن يحدث معجزة النسيان، ولكن لم يك غير الموت شافياً (لماريا). فلم تمض سنة حتى تركت الأخت (فكتوريا) وراءها على الأرض صدفة مرمرية ورسالة إلى من وهبته قلبها. وحمل الرسالة أخوتها إلى (برجوليزي) في روما؛ فقد رحل من قبل عن (نابلي) مثوى أحلامه. أما الرسالة فكانت: (دعوا برجوليزي يدير المحفل الأخير لروحي حتى يتاح لها أن تصعد إلى عالم الخلد على أجنحة المجد)

فترك برجوليزي ما لم يتم من تأليفه؛ وقد كاد أن يتم أوبراه الخالدة (الأوليمبياد) ورحل سريعاً إلى (نابلي) ليجد هناك طعنة جديدة تنتظره؛ فقد كانت القطعة التي سيدير عزفها ليست له ولكنها من تلحين (ليد) الموسيقي القديم. ويحهم! ويحهم! لم يريدوا حتى أن يكون له شرف تأليف لحن جنازتها. لم يريدوا إلا حرمانه حتى ذلك التأسي الفاني، ولكنه فنان عاشق، ولكنه محب واله، ولكنه. . . لحن في سرعة جنونية يائسة قطعة كل نغم فيها فلذة من حنايا قلبه المضني، من ثنايا أساه البليغ

<<  <  ج:
ص:  >  >>