وهممت أن أصرخ مستغيثة ولكني تذكرت أن صراخي سيجلب دون ريب عدداً كبيراً من الجند، وأن هؤلاء سيفتشون وسيبحثون من جديد عن الجندي الفرنسي. فقلت للجندي الألماني:(أرجوك. . . أرجوك. . . أن تدع هذا لوقت آخر. . .!!)
فقهقه الرجل ثم قال:(لوقت آخر؟! وقت آخر؟! ربما يكون ذلك عندما أموت!!)
وما تلبث حتى حملني على ذراعيه وأخذ يصعد بي الدرج إلى أعلى. ولكنه لم يكد يخطو خطوة واحدة حتى سمعنا صوتاً يقول على حين غرة:(إنني آسف يا سيدتي على ما سببت لك من تعب. . .!)
وما سمع الألماني هذا الصوت حتى أنزلني من فوق يديه وأوقفني على قدمي، ثم أدار وجهه فيما حوله وإذا. . . وإذا بالجندي الفرنسي واقفا أمامه وجهاً لوجه، منتصب القامة، مرفوع الهامة، بالرغم مما يقاسي من جراحه، وما يعاني من آلامه! وإذا به يبسم لنا بالرغم من أنه كاد يغمى عليه من الألم، ويغشى عليه من الجهد والإعياء
إنني سجينك الذي تبحث عنه، وأسيرك الذي ترجوه، إنني حاجتك وطلبتك. . . ومادام الأمر كذلك فهيا بنا إذن نذهب من هنا ونترك هذه السيدة الكريمة في سلام وطمأنينة!!) هكذا قال الجندي الفرنسي للجندي الألماني الذي أذهلته المفاجأة فوقف مرتبكا لا يدري ماذا يفعل. وأخيراً قال هامساً في نفس متقطع (نعم. . . نعم. . . إنك سجيني!)
وخرج الرجلان من داري وسار معا؛ وعلى ثغر الفرنسي ابتسامة لا تفارقه، وعلى وجه الألماني حيرة وذهول!
وما رأيت الجندي الفرنسي بعد ذلك اليوم أبداً. فيا ليت شعري هل مات في الحرب أم هو ما يزال حيا إلى اليوم!؟ ولو أنني رجعت إلى (باريس) بعد الحرب لما تباطأت في البحث عنه حتى ألقاه فاشكره على ما أسدى إلى من عارفة وما قدم إلى من جميل
ولكني وا أسفاه لم أعد إلى فرنسا، لأن حياتي فيها تزوير على نفسي؛ ولم أبق في ألمانيا، لأني فجعت فيها بموت زوجي الذي كنت أعيش من أجله على أرضها، بل أتيت إلى إنجلترا لأبدأ حياة جديدة، وما نسيت هذه الذكريات المؤلمة في يوم من الأيام بالرغم من مرور هذه السنين الطوال.