وفي الخريف عهدوا به إلى مدرسة داخلية فلما عاد في الصيف التالي كنت مخطوبة. فأدرك الأمر في الحال، والتزم مدى ثمانية ايام هيئة المفكر الغارق في التفكير. فأهمني ذلك وساورني منه قلق شديد.
وفي صبيحة اليوم التاسع استيقظت من نومي فوقعت عيناي على رقعة صغيرة مدسوسة من تحت الباب. فتناولتها وفتحتها وقرأت فيها:(لقد هجرتني، وأنت تعلمين ما قلته لك. لقد قضيت على نفسي بالموت. وأني احب إلا يعثر بي أحد غيرك، فتعالي إلى الروض في نفس الموضع الذي قلت لك فيه أني أهواك وتطلعي في الفضاء) فكدت أن اجن. وأسرعت بارتداء ثيابي وهرولت على عجل اجري واجري وأكاد أتساقط إعياء إلى المكان المعين. وإذاقبعته الصغيرة المدرسية ملقاة على الأرض في الوحل. فقد كانت الليلة مطيرة. ورفعت طرفي فأبصرت شيئاً معلقاً يترجح بين الورق، وكان يوم ريح، ريح شديدة.
ولا ادري بعد ذلك ما صنعت. قد صرخت أول الأمر ولا ريب، ولعلني سقطت بعدها مغشياً علي، ثم عدوت هائمة على وجهي إلى القصر. وثبت إلى الرشد في فراشي وأمي إلى جانبي.
فخيل إليَّ أني رأيت ما رأيت كله في هذيان حلم فظيع. فغمغمت:(وهو، هو، جون تران؟) فلم يجبني أحد. إنها الحقيقة.
ولم اجرؤ على طلب رؤيته. فطلبت إليهم خصلة طويلة من شعره الأشقر. وهذي. . . وهذي. . . هي. . . .).
ومدت العانس يدها الراجفة بحركة القانط المقطوع الرجاء وأخرجت منديلها ومخطت مرات ومسحت عينيها الدامعتين واستأنفت تقول:(ونقضت الخطوبة دون إبداء سبب. . . وبقيت. . . العمر كله أرملة. . . أرملة. . . هذا الصبي ابن الثلاثة عشر ربيعا). ثم مال رأسها على صدرها وبكت طويلا بدموع الذكرى.
ولما انصرف المدعوون إلى حجراتهم للرقاد، مال صياد غليظ الجسم قد أفسدت عليه الحكاية صفوه إلى أذن جاره هامساً: إلا ترى أن رقة الوجدان إلى هذا الحد بلاء وشر بلاء.