أما وجدانه فكان كله مستغرقاً في أثر الخطاب والموعد. لذلك انصرفت نفسه عن الغذاء، وعز النوم على جفنيه وحامت أفكاره حول فتاته فتمثلها أمامه بقدها الممشوق ووجهها البدري وكأنه كان يسمع رنة صوتها، ويشم رائحة (سوار دي باري) التي تتعطر بها، فانفعل انفعالاً شديداً نبا به عن الطمأنينة. ولم يكن قر رأيه على شيء ولا بت في المسألة برأي، بل كان يحاذر من مواجهتها مواجهة حتى لا يقطع فيها برأي ينغص عليه أحلامه أو يميل بها إلى حل يثير كوامن أحزانه. حتى إذا وافى الأصيل وجد نفسه يغادر البيت ويقصد إلى قصر النيل مستسلماً لتيار عنيف لا يتنكب عن طريقه ويأبى أن يقر بالاستسلام. ولكنه ألفى نفسه أمام ما يحاذره حين عبر الجسر، وطالعته الحديقة الأندلسية بخمائلها المعشوشبة ومدرجاتها السندسية، هنالك أحجم عن التقدم وانعطف إلى يمينه يساير النيل مضطرباً حتى حجبه سورها الحجري ثم أستند إليه متريثاً وقد لفته الحيرة والاضطراب ولبث في جمود تام، وكانت أفكاره تنجذب بشدة نحو تلك التي لا يفصلها عنه سوى السور الحجري. وسرى في ملمسه من الحجر البارد تيار حار متدفق، فخفق قلبه بعنف وكاد يتحول إلى الباب مندفعاً وفي تلك اللحظة الفاصلة أرتد خياله - فجأة - إلى بعض حقائق الماضي الأليمة، فبردت حماسته وهبطت حرارته وانتكس انتكاساً غريباً أحس من جرائه يخجل واستحياء وألم فجعل يتساءل مغيظاً محنقاً: كيف حملتني قدماي إلى هنا! ولم يلبث أن احتدم بقلبه الغضب وخال أن إقدامه على الذهاب إلى هناك عيب حقيق بأن يجعله ضحكة للضاحكين والشامتين
وهز منكبيه باستهانة وانحدر في الطريق الضيق مبتعداً عن الحديقة، ولم يعتوره التردد سوى مرة واحدة وقف عندها قليلاً والتفت وراءه ثم أستأنف المسير بعزم وبأس، ولم يكن يملأ فراغ خياله حينذاك سوى صورة أمه. . . وهكذا خان عهد سعادته ليكون وفياً لذكرى أمه، وكثيرون هم الذين يعانون الآلام والمتاعب في سبيل ما يتمثل في نفوسهم من الأوهام