وكان الرجل قد اقتنع بذلك الرأي. فنهض واقفا وهو يطيل النظر في وجه القاضي الهادئ.
كان السكون يعم الكون في الخارج، والنسيم يهب رقيقا، ورداء الليل الأسود يغطي الطبيعة فيزيد أسرارها رهبة؛ ولمح القاضي بعض التغير يطرأ على وجه ضيفة. وكأنه شعور الراحة بعد طول عناء.
وأخيرا قال القاضي: أنا لم أفهم لم لم يصرح مارلو بالأمر حين حوكم فهو محق بعض الحق فيما فعل.
لم يشعر الرجل الإنكليزي إلا وهو يتناول الخطاب ثانية، وأدرك القاضي للتو الكلمات التي يقرؤها الرجل فإذا به يهمس بها تلك الكلمات العذبة الصادرة من قلب يشعر بما للحرب من أهوال وفظائع، وكان نيرانها قد اشتعلت في أفق يومهما ذاك. كلمات ولده التي تقول (لم أر في حياتي من هو أكبر إقداما وأكثر شجاعة من ذلك العدو الشاب).
كفى مارلو تلك الكلمات وليحاكموه ما شاءوا. كفاه فخرا شهادة مثل هذه من عدوله لدود. عاد السكون بينهما إلا أن القاضي قال:
إنه لمن دواعي سروري حقا أن أضع بين يديك ما يزيل عنك وحشة وشكا مريبا عشت رحمتهما عشرين عاما كاملة، ولا أظن أحدا يمكنه أن يتهم ولدك بالجبن والخوف بعد الآن. فلمعت عينا الرجل برغبة حادة شعر بها القاضي فإذا به يقول:
لتأخذ ذلك الخطاب ولتفعل به ما تشاء.
فما كان من الرجل الإنجليزي إلا أن نهض واقفا وأمسك بالخطاب ثم أدناه من لهب الشمعة فاشتعل وسرعان ما تساقط الرماد. حدث ذلك وهما باقيان على صمتهما ونور القمر يرافقهما.
ولم يشعر إلا ويد كل منهما في يد الآخر. فقاما في صمت إلى الحجرة المجاورة وقد اشتبكت ذراعاهما. وأدار النظر فيها فقابلتهما صورة الكابتن هجنوير بقامته المديدة وابتسامته العذبة.