تلك التعسة، وحمل الرجال زوجاتهم على أذرعتهم ليشاهدنها، وتساءل الناس أيهن؟ أيه تلك التي ترتدي ثوباً أزرق اللون؟ وكان الأولاد يصيحون صياح الديكة، وانفجر القوم يضحكون ضحكات عالية، ولكنها لم تتحرك من مكانها، كانت جالسة في ذهول على المقعد الوثير كأنها ساعة خصصت لهذه الحفلة تتطلع إليها الأنظار، ولم تستطع حراكا، ولم تتمكن من إخفاء وجهها. كانت جفونها تنطبق ثم تنفتح كأن هناك ضوءا باهراً يحرق عينيها. ولهثت كأنها جواد يصعد مرتفعا من الأرض. كان كل هذا يمزق قلبي تمزيقاً.
وأخذ السيد هامون برقبة رئيس فرقة الموسيقى ذلك الشخص الوقح وألقاه على الأرض وسط الضوضاء الهائلة. وتوقف الاحتفال، وبعد ساعة كان السيد هامون في طريقه إلى الدار برفقة زوجه. كانت مرتجفة الجسد صامتة لم تفه بكلمة واحدة. وفجأة تسلقت حاجز الجسر دون أن يتمكن زوجها من منعها، ثم ألقت بنفسها في النهر.
واستغرق إخراجها ساعتين من ذلك الماء العميق. كانت بالطبع قد فارقت الحياة).
صمت المتحدث لحظة ثم عاد بعدها يقول (ربما كان من الأفضل لها أن تصل إلى هذه النهاية المؤلمة. فإن هناك أشياء تحدث فلا يمكن محوها. وهأنذا عرفت الآن لماذا رفض القس أن يفتتح أبواب الكنيسة لها. فإنه لو كان الدفن دينياً لشيع الجنازة كل أهل المدينة. ولكن ذلك الانتحار وتلك القصة الأليمة حملت العائلات على الاحجام عن تشييع الجنازة. ولذلك كان من الصعب أن يشيعها القس.
وعبرنا باب المقبرة؛ وانتظرت في تأثر بالغ نزول الناووس في القبر لأقترب من ذلك الشاب المسكين الذي كان يبكي وينتحب. وشددت على يده معزيا، فنظر إليَّ في دهشة من خلال دموعه ثم تمتم قائلاً: (شكراً يا سيدي، شكراً).