ومر الليل على الحداد العجوز. . . طويلاً مخيفاً، وهو يبكي وينتحب باحثاً بين غرف البيت عن شيء، لا يدرك كنهه، فقده قبل ساعات. . . ولم يكد الفجر يرسل نوره في عروق الظلام حتى قام الرجل يخطو نحو غرفة ولده حتى ولجها وتقدم إلى الفراش بخطىَ ثابتة صائحاً بالابن في صرامة:(انهض) ورفع هذا عينيه المخضلتين بالدموع فرأى أباه بثياب السفر وفي يده عصاه المثقلة بالحديد. . . فلم يتمالك نفسه من الوثوب من فراشه، وأمسك برداء الجندية ليلبسه، ولكن الأب صرخ قائلاً:(كلا. . . عليك بغيرها).
وحين اعترضت الأم بأنه لا يملك سواها، صاح مزمجراً:(إذاً فليأخذ من ملابسي. . . إنها لن تلزمني بعد الآن).
قالها وهو يتناول من ابنه رداءه العسكري ثم عاود الكلام بعد حين:(هيا بنا. . .)
. . . وحين ضمهما الطريق تتابعت في ذهن الابن صور الطفولة في سرعة خاطفة فذكر تلك الأيام السعيدة حين لم تكن السنون قد أثقلت كاهله بعدُ بأعباء الدنيا. . . ولم يلبث أن أطلق من صدره آهة عميقة قال الأب على أثرها بصوت خفيض:(كريستيان. . . إليك مصنعي، فهو كل ما أملك، فخذه ما دمت قد ابتعته بدماء مواطنيك وسلامة بلادك. . . خذه ولتنعم في ظله بما تشاء، مجرداً من الشرف الذي لم تعرفه. . . أما أنا، فذاهب إلى غير رجعة. . . نعم سأوفي عنك الدين لفرنسا فبت قرير العين وعش بلا كرامة.)
. . . تساقطت دموع الابن في لحظة الوداع وانبعثت إلى حلقه غصة أوشكت أن تخمد أنفاسه فنادى أباه بصوت مبحوح:(أبـ. . . تاه)
. . . وخرجت الأم إلى الطريق صائحة:(لوري. . . لوري إلى أين. . .)
ولكنهما لم يسمعا سوى صدى صوتيهما، فقد مضى الأب في طريقه. . . ليلحق بالجيش