للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

القول أن الخصمين مع كل ما لاحظناه بينهما من الاختلاف من جهة النشأة والتربية والبيئة والدين والأخلاق دانا بعلمهما إلى الفكرة اليونانية دينا شديدا

كانا به يعترفان ويفتخران، يجتهدان في التشبه بالعلماء الأقدمين، كما أن علوم الأوائل كانت عنصراً لازماً لمدينة البلاد الإسلامية في القرن الخامس. هذا هو العصر الأخير لأثر العقلية اليونانية العلمية في الشرق الأدنى قبل أن تسير إلى الاضمحلال التدريجي حتى تتلاشى. فإن السلاجقة الذين يوافق ابتداء سيادتهم عصر ابن بطلان وابن رضوان لم يعنوا بتجديد النظام السياسي للناحية الشرقية من عالم الإسلام فحسب، بل قاموا أيضاً بتأييد السنة وبمحاربة كل الحركات العقلية التي يعتبرونها مخالفة لها، فكان لعلوم القدماء حظ غير موفور، لأن بعض المحافظين استمروا يسيئون الظن فيها خصوصاً بعد ما أنتفع بها القرامطة والفاطميون في إلباس تعاليمهم الباطنية ظواهر الحقيقة العلمية

ورغماً من هذا فقد جاء في القرون المتأخرة من حين إلى حين بعض علماء مبرزين خلعوا عن أنفسهم تلك الأغلال، وأظهروا الروح العلمية الخالصة غير ملتفتين إلى شكوك من دونهم. من هؤلاء الفيلسوف الأندلسي ابن رشد (المتوفى سنة ٥٩٥)، والجهبذ موسى بن ميمون (المتوفى سنة ٦٨٧) والطبيب المصري ابن النفيس (المتوفى سنة ٦٨٧) مكتشف الدورة الرئوية للدم؛ إلا إنه للأسف بقي أولئك الأفاضل في أوطانهم غرباء منفردين لم تقدر آراءهم ولم تنتشر، على حين كان ابن بطلان وابن رضوان من المعبرين عن الحركة العقلية العامة في زمانهما التي اشتركا فيها مع رهط كبير من معاصريهما. لم تخل العلوم الأخرى غير الطبيعية والطبية من ذلك التدهور العلمي الذي نشاهده ابتداء من القرن السادس؛ وهذا حجة ساطعة لقيمة تأثير الفكرة اليونانية على الأعمال العقلية في كل نواحيها.

ومهما يكن من شيء فإن ما تناولناه في بحثنا هذا يصور لنا صورة واضحة لضحى العلوم اليونانية العربية في بلاد الإسلام

يوسف شخت

<<  <  ج:
ص:  >  >>