ألفناه منه وتعودناه. والسبب في هذه الإجادة سهل إيضاحه: فأن الموضوع الذي يعالجه هنا موضوع عربي صميم، والبيئة عربية خالصة. والمتكلمون من قريش وغير قريش من الناطقين بالضاد. وهذا كله قد أتاح للمؤلف فرصة لأن يتدفق نهره العربي الفصيح الذي لا تشوبه عجمة اللاتين ولا التواء السكسون. فانطلقت سليقته العربية حرة طليقة واكبر الظن أنه هو ليس مدركا لهذا الأمر. ومع ذلك فأن في الكتاب قطعا قد بلغت في الأسلوب الشعري منزلة يصعب أن نجد لها ضريباً. حقيقة أن أمثال تلك القطع ليس في كل مكان من الكتاب، ولكنها في كثير من المواضع، بحيث يصبح من العبث أن نستشهد هنا بقطعة أو قطعتين. ولابد للقارئ من الرجوع إلى الكتاب كله. ولابد له من قراءته في تأمل وتمهل وتذوق لهذه الفصول الرائقة التي يسمو فيها النثر حتى يضاهي الشعر، ويؤثر في النفس تأثيراً شعريا خالصا.
وللمؤلف شغف بالوضوح والبيان، فهو لا يحاول أن يستر معنى ولا فكرة بستار أو غشاء. وما حاجة الوجه الجميل إلى الستر؟ فهو ليس من عشاق الغموض، بل انه ليسرف في حبه للوضوح والجلاء إسرافا، ولهذا نراه يكثر من هذا التكرار الذي يعرفه قراؤه دون أن يدركوا له سرا. بل ربما لم يدرك هو نفسه سر هذا التكرار. وقد يعده الناس من ضرورات النثر المنسجم ولهم في هذا بعض الحق؛ ولكن أكبر الحق في هذا أن الذي يدفعه إلى تكرار لفظ من آن لآن هو رغبته في أن يفهم عنه ما يقول من غير لبس ولا إبهام.
والآن، وقد أوشك هذا النقد أن يختم، يتردد في النفس سؤال: سؤال من ذلك الطراز الذي يدفعنا اليه الفضول الأدبي. وهو من أي انواع الأدب هذا الكتاب الذي بين أيدينا؟ اهو رواية قصصية تاريخية؟ اهو من نوع المقامات أم مجرد مقالات؟
ولست ادري ما ولع النقد بتصنيف كل شيء وتسمية كل أثر؟ ولئن كانت الفاكهة لذيذة شهية، فهل يضرنا أن نجهل اسمها؟ أن الفكر البشري ما برح مولعا بأن ينسج على غير منوال. لكن إذا اجتهدنا أن نجد لهذا المؤلف شبيها بين المؤلفات، فلعل اقرب شيء يشبهه هو تلك الملاحم التي تصف العصور الغابرة، وتجمع بين القوة والإعجاز.