يعجب، بشخصية أم أوفى حاضنة النبي، فلم يزل يصف حياتها منذ ولادة محمد بن عبد الله إلى أن شهدت عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ثم يعود بعد ذلك إلى حديث الرضاعة ووفاة عبد المطلب.
وهذه الخطة التي الزم بها المؤلف نفسه قد تبدو غريبة وربما اعترض عليها بانها تدفع بالقارئ من أول السيرة إلى عصر الخلفاء الراشدين ثم تعود به مرة اخرى إلى بدء السيرة. ولا تزال بالقارئ هكذا ذهابا وإياباً، ومع أن لهذا النقد وجاهته التي لاشك فيها، فان للمؤلف عذره بان الذي يريد ان يكتبه ليس حديث السيرة بالذات بل دراسات مستقل بعضها عن بعض، وفي وسع القارئ أحياناً أن يطالع الفصل متقطعا من الكتاب فلا يكاد يفتقر إلى ما سبقه.
بقيت كلمة لا بد منها عن أسلوب الكاتب، أي عن طريق الأداء عن المعاني والإبانة عما في صدر المؤلف.
ان لطه حسين من السيطرة على اللغة العربية التي لا تضارعها لغة في قوتها وفصاحتها، كما لا تضارعها لغة في شدتها ومنعتها، أن لطه حسين من السيطرة على هذه اللغة وعباراتها المتينة الرصينة ما لا يعرفه إلا اللذين عاشروه من كثب وراقبوه وهو يعمل في قوة ونشاط. ومتى وفق إلى اختيار الموضوع الذي يرضاه؛ وهداه خياله الواسع إلى طريقة معالجته، فقد هان الأمر وسهل كل شيء ومضى في الإملاء كما يتدفق النهر الجاري.
غير إننا إذا كنا نشكو شيئا فأنا نشكو هذه القوة بعينها. وهذه السيطرة التي تطغى أحياناً فتدفع بالكاتب إلى التعسف، وإلى الابتعاد عن الطريق التي يسلكها الناس جميعا، انظر اليه مثلا اذ يحدثك عن الدمع الذي يتساقط غزيرا من العينين فيقول لك أنها دموع غلاظ. ويكفي أن يعلم طه ان الناس جميعا يقولون دموع غزار، لكي يقول هو دموع غلاظ.
هذا الشيء، والقليل مثله مما قد يصادفنا في الكتاب، سنة من سنن القوة والسلطان رأيناها من قبل في مثل ابي تمام وابي الطيب المتنبي الذي كان يتعمد قول الشيء الغريب النافر ولأنه قوي ولأنه مدل بقوته، ولأنه لا يبالي بالأرض ومن عليها. وما احسن المثل العامي الشهير (العافية هبله!).
على أن المؤلف في هذا الكتاب قد أدى معانيه بلغة فيها بلاغة وإبداع يفوقان حتى الذي