الثانية عشرة والنصف بصحبة الأم. فتحت الأم الباب فراعنا أن تبصر فريدة منطرحة على أحد مقاعد الصالة في وضع مهمل، اتجهت إليها الأم وهزت جسدها في رفق فهبت من رقادها تصرخ في جنون. وحملتها الأم بين ذراعيها في اضطراب، لكنها انطلقت ترفس الهواء برجليها محاولة التملص منها
- ماذا بك يا فيفي؟. . . لماذا تبكين يا فيفي؟!
لا جواب سوى الصراخ. صراخ يصل عنان السماء. . ثم انحلت عقدة لسانها واندفعت صائحة:
أنت تكذبين عليَّ يا ماما. . . بابا لن يعود إلا حين يترك سي زكي دارنا. . . أنت بعثته إلى الإسكندرية لكي تحضري سي زكي هنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لماذا يعيش في دارنا بدل بابا؟. أنا لا أحبه، لا أحبه. . . بابا أحسن منه. بابا أحسن منه يا ماما. . .
انسللت إلى غرفتي في صمت وأنا أشعر بقبضة قوية تعصر قلبي. وتهالكت على المقعد ووضعت رأسي بين كفي وأغمضت عينيَّ مُفكراً، وقبل أن ألجأ إلى الفراش كانت حقائبي معدة للرحيل
وقفت الأم في الصباح التالي في ركن من ساحة الدار ترقب الحمال في وجوم وهو يروح ويغدو حاملاً متاعي. واختفت فريدة وراءها تخلس إلى النظرات في ابتهاج. وتمَّ كل شيء فأقبلت عليهما مودعاً وابتسامة باهتة ترفرف على ثغري شددت على يد الأم في حرارة فاستبقت كفي بين كفَّيها وحدَّقت في وجهي بعينين تحيَّرت فيهما الدموع. ولم تفه بكلمة واحدة وقبل أن أستدير مولِّياً الأدبار رنوت إلى فريدة بنظرات تجمعت فيها عواطف الحب والحزن والألم، فابتسمت في سرور وتشفَّ، وهبت السلم متمهلاً ثم توقفت حين سمعت فريدة تسأل أمها في فرح: ماما. . . متى يعود بابا؟!
وواصلت هبوطي ثانية ولساني يجمجم في أمسىً: قريباً إن شاء الله يا فيفي!