يريدون أن يسيطروا على الأرياف، وحكام الأرياف يريدون أن يحتفظوا باستقلالهم الإداري يستمتعون بما جنوه من أموال وخيرات، وبين هؤلاء الحكام وبعضهم حروب لا يخمد لها لهيب، والناس لا تعرف من الأمن إلا اسمه. فإذا ما سار التاجر بأسطوله النيلي المحمل بخيرات البلد من منطقة إلى أخرى وجب عليه دفع الإتاوة إلى شيوخ قطاع الطرق - طائفة أخرى مستقلة عن كل الطوائف امتهنت السلب وتفننت فيه وأثرت منه - وإلا أصاب أسطوله النهب والتحطيم.
في ذلك الجو الخانق ظهر علي بك الكبير. وكان كبقية المماليك. عاش منذ نعومة أظافره بين مؤامرات الخيانة تطيح برؤوس الأمراء. عاش مملوكا طيلة حياته تتمثل في سياسته أساليب القسوة والغدر. ولكنه كان مملوكا أكثر ذكاء وأشد صلابة وأكبر أطماعا من غيره. تمثلت فيه صفات الملك فاستطاع أن يستخلص لنفسه حكم مصر فاستغنى عن الباشا الوالي وأخضع سائر المماليك لحكمه وضرب على أيدي قطاع الطرق. فاستمتعت البلاد في عهده بالأمن وبشيء من الطمأنينة لم تستمتع بهما في عهد غيره. وأحست بنوع من الكرامة الوطنية تذكو في فؤادها. فقد رأت حاكمها العظيم يقطع صلته بالدولة العثمانية ويجعل لمصر مركزا ممتازا بين الدول. . . ولكن هذا العهد لم يدم طويلا، فقد تألب المماليك المدحورون برياسة محمد بك أبي الذهب مملوك علي بك وساعده الأيمن فيما مضى - وشقت عليه عصا المطاعة وقاتلته حتى دحرته، ومن ثم أرجعت الباشا الوالي إلى عرشه الواهي المتآكل. . . وعادت الحياة كما كانت قبل أن يحكمها ذلك العاهل الكبير.
صور عنيفة جبارة، يعرضها أمامك المؤلف في دقة غريبة وتنسيق جميل في كتابه الدسائس والدماء، وإنك لتعجب وأنت قرأ هذه الصحائف الممتعة كيف استطاع الكاتب أن يجمع لك في كتاب لا يتعدى المائة والخمسين صفحة، هذه الحوادث الجسيمة والشخصيات المعقدة في شبه ملحمة لم تدع كبيرة ولا صغيرة عن هذا العهد إلا سجلته. ولعلك تعجب أيضاً إذا علمت أن كل فصل من فصول هذا الكتاب يصح أن يكون قصة مستقلة يستطيع مؤلفها أن يملأ بها عشرات الصفحات. . .