نفسه آلة ماكرة تعلمت الخبث من هؤلاء السادة الطغاة فاستطاعت أن تراوغهم هازئة بهم. ترشو هذا لتبعد ذاك، وتعطي جزءا لتحتفظ لنفسها بأجزاء. ثم هناك الطبقة الحاكمة وهي المماليك، تلك الطائفة الغريبة التي امتهنت الحكم ورضيت بما يحفه من خطر دائم. طائفة كانوا يشترونها في الأسواق أطفالا أرقاء يأتون بهم من مواطنهم في بلاد الشركس وأواسط آسيا، وينشئونهم نشأة حربية، فإذا ما نما المملوك واكتمل أصبح فارسا يجيد الحرب كما يجيد الحكم. وهو في الحالتين غدرا خبيث يعمل بقول القائل: الغاية تبرر الواسطة. يعيشون طول حياتهم والسيف لا يهمد لحظة في يدهم. وانك لترى على ملابسهم المزركشة المقصبة المحملة بالخناجر والسيوف بقعا من الدم كأنها أوسمة فخار. . وإذا ما دخلت دورهم عثرت قدمك برأس أو بضعة رؤوس بشرية تعترض طريقك. فإذا ما أغضيت النظر وتابعت سيرك دوى في أذنك صراخ مستغيث، فإذا بهارب يهوي أمامك متخبطا في دمه. . هؤلاء المماليك وعلى رأسهم شيخ البلد كانوا حكام مصر الحقيقيين في تلك الحقبة الرهيبة التي زعم العثمانيون أن البلد فيها إيالة تركية لا أكثر ولا أقل. ولكن أين مظهر تلك التبعية؟ أفي الباشا الوالي ذلك الحاكم المسكين الذي كان يوليه السلطان حكم مصر فلا يتعدى حكمه دائرة القلعة المسجون فيها؟ وليته كان يُترك سعيدا بحكم هذه المنطقة الصغيرة. إنه كان فيها أشبه بالطرطور يلبسه شيخ البلد. ليس عليه إلا أن يصدر الفرمانات التي يطلبها منه هذا الشيخ، فإذا عصى فإلى العزل أو الحبس أو القتل!! أم في تلك الحامية التركية الضعيفة التي نقص أفرادها على توالي الزمن فاستعيض عنهم بنفر من أهل البلد؟. . وهناك غير هاتين الطائفتين طائفة قوية تحتكم في ثروة البلد هي طائفة التجار، تلك التي كانت كلها من أبناء البلد والتي عاشت بالرغم مما انتابها من عسف كان يهد في ثروتها، عاشت في شيء من الرخاء والهدوء؛ وبجانب هذه الطائفة كانت طبقة العلماء - شيوخ الأزهر - تلك التي كانت تسيطر على البلاد بقوتها الروحية. وكانت الأمة كلها وحكامها على رأسها تضمر لها الاحترام وتعمل بنصائحها. ولكن هذا لم يكن يمنع عنها في بعض الأحيان بطش هؤلاء الحكام وغدرهم.
. . . أجل لقد استطاع الأستاذ خيري سعيد أن ينقلنا إلى ذلك الجو وكأنه أركبنا طيارة وطار بنا على صعيد مصر كلها فإذا بنا نرى النار تشتعل في كل مكان: حكام القاهرة