وإذا كانت الصورة المقيتة التي تركها التاريخ السياسي والدرس المقتضب لهذا العصر في أذهاننا، قد صرفتنا عنه إنكاراً له، حتى ليود بعض الناس لو لم تكن هذه الفترة في تاريخ مصر؛ فإن الصورة الجميلة الرائعة التي تركها التاريخ الفكري لمصر عن هذا العهد جديرة أن تصرفنا إليه وتحببنا فيه، وتجعل منه مفخرة لنا تخفق لها قلوبنا، ومثلا عالياً لطلابنا ورجال العلم عندنا؛ حينما يستطيع البحث العلمي أن ينفض التراب عن هذه الصورة، ويجلوها للناس كريمة رائعة
وإنه ليغبطنا أن نقدم اليوم وجهاً من وجوه هذه الصورة، في شخص رجل من رجال ذلك العهد، لا نخطئ إذا قلنا إنه من خير ما يمثل هذا العصر تمثيلا يملأ قلوبنا روعة وإكباراً، ويهز مشاعرنا حباً وإعجاباً، وإن كنا نأسف لأن أسباب البحث لم تهيأ لنا كما ينبغي لعرض هذه الشخصية في أكمل مجاليها: ذلكم هو العلامة الشيخ تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي
- ١ -
ولد تقي الدين في شهر صفر سنة ٦٨٣هـ (أغسطس سنة ١٢٨٤م)، في أسرة شريفة النسب، كريمة الحسب، تنمى إلى قبيلة الخزرج الأنصارية من بطن منها يقال لها أسلم، كما أثبت ذلك النسابة المصري شرف الدين الدمياطي، وقد أشار إلى هذا النسب الشاعر المصري ابن نباتة في مدائحه للشيخ عبد الكافي السبكي أبي تقي الدين:
وبيت فضل صحيح الوزن قد رجحت ... به مفاخر آباء وأبناء
قامت لنصرة خير الأنبياء ظبا ... أنصارهم واستعاضوا خير أنباء
أهل الصريحين من نطق ولحن ظبا ... أهل الربيحين من نصر وإيواء
كما ذكره أيضاً القاضي صلاح الدين الصفدي في كتابه (أعيان العصر). وقال ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار) في ثنايا كلامه عن الشيخ تقي الدين: (جواد جرى على أعراقه، وجاء على أثر سباقه. من عصاية الأنصار حيث يعرف في الحسب التليد، ويدخر شرف النسب للمواليد. . . . بزغ من مطلع الصحابة رضي الله عنهم، ونزع به عرقه إلى التابعين لهم بإحسان. وهو مثلهم إن لم يكن منهم)