واعتذر إليه مانسو لأنه لا يستطيع بسبب عقيدته الدينية أن يظهر له من الحفاوة به ما يستحق مخافة الرقباء في المدينة، وعاد ملتن إلى روما فلبث فيها شهرين آخرين ثم ذهب مرة ثانية إلى فلورنسة، وفي هذه المرة استطاع أن يزور العالم العظيم جاليليو وكان نزيل السجن في المرة الأولى؛ بسبب آرائه في الفلك وخالفته بها رأي الكنيسة، وزاره ملتن في بيته على مقربة فلورنسه بعد أن حصل على إذن من السلطات، وكم تأثر الشاعر لمرأى هذا العالم الشيخ فقد كف بصره وأحيط بالرقابة الشديدة وبدا محطم الهيكل شديد الضعف، على أنه كان لا يزال محتفظا بقواه العقلية، ولو اطلع ملتن على الغيب ساعتئذ لرأى نفسه صورة شبيهة بصورة جاليليو في ضعفه وفقد بصره ومعاناته الآلام من أجل عقيدته. . .
وسافر ملتن بعد ذلك إلى البندقية ومنها أرسل إلى وطنه ما اشترى من كتب ومخطوطات وكان بينها صندوقان لكتب الموسيقى، ومن البندقية اتجه إلى جنيف ليعود منها إلى موطنه، وكان يجب أن تطول رحلته أكثر من هذا، ولكن ما ترامى إليه من أنباء وطنه جعله يؤثر العودة، عبر عن ذلك في قوله (رأيت أن ما يلحق بي الشين أن أرتحل طلباً للمتعة في الخارج بينما يعاني بنو وطني الآلام من أجل الحرية في بلادي).
هذه هي رحلة ملتن إلى إيطاليا ولسنا نجد لما شهده من المدن والآثار صوراً في شعره اللهم إلا ما وصف به روما في الفردوس المستعاد، وهي صورة ليست بذات أهمية كان يستطيع مثلها لو لم يسافر؛ كذلك لم يظهر ملتن أثر لاستمتاع بلهو الحياة، بل إنه أشهد الله وهو في جنيف في طريقه إلى موطنه أنه لم يأت شيئا في رحلته تخجل منه الفضيلة.