وكثر قولهم في الأشياء التافهة كالسبحة والمخدة والمروحة؛ وعدوا ذلك نزولاً بالأدب عن درجاته وحطاً له في دركاته، وقد رأيت أن هذا ليس صحيحا كله، ولئن صح أن الشعر فقد شيئاً ببعده عن ظل الممدوحين الوارف - لقد كسب به أشياء، أولها أن هؤلاء الشعراء - وقد عدموا الممدوحين المغدقين من الملوك والأمراء - وجدوا بديلاً أجل منهم وأعود عليهم باللذة الروحية، وهو سيد الخلق، فهشت له نفوسهم، وجعلوا ينشدون المدائح النبوية، وازدهر هذا الفن في قصائد لا تتأخر قيد أنملة عن قصائد الفحول من المتقدمين، وحسبك بردة البوصيري التي أولها:
وقد كان من الشعراء ذوي الصناعات المعيشية من أجاد وأفتن في القول كأبي الحسين الجزار؛ وإلى جانب إجادتهم في أغراض الشعر المختلفة برزت صناعاتهم في أشعارهم، واستخدموا مصطلحاتها في معانيهم، فأحسنوا وظرفوا، قال الجزار:
لا تلمني مولاي في سوء فعلي ... عندما قد رأيتني قصابا
كيف لا أرتضي الجزارة ما عش ... ت قديماً وأترك الآدابا؟
وبها صارت الكلاب تُرِّجي ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكتب إليه النصير الحمامي:
ومذ لزمت الحمام صرت به ... خلا يداري من لا يداريه
أعرف حر الأسى وبارده ... وآخذ الماء من مجاريه
فكتب إليه الجزار:
حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والعقول تختلف
والعبد قد صار في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف
على أنه لا يقدم الأدب ولا يؤخره - من حيث القيمة الذاتية - أن يكون الأدباء من ذوي الحرف أو من أهل الرياسات
وصف الأشياء التافهة:
رأيت مما عابه مؤرخو الأدب على الشعراء المتأخرين وصفهم للأشياء التافهة. ولست أدري كيف يعد هذا تخلفاً في مضمار الشعر؟! كأن مقياس الإجادة في الوصف عندهم أن