وللنشر أصول صارمة تجعل نجرد النسخ مهمة دقيقة مضنية. فإذا انتهى النسخ عنه المخطوطات المختلفة ابتدأت مهمة جديدة هي إقامة النص وإصلاح خلله. فإن كثرة نسخ الكتاب تدخل عليه كثيراً من الأخطاء. ومن الناشرين من يلتزم بعد ذلك توضيح النص بالهوامش.
ولكن مهمة الدكتور الشيال تعقدت لأن المخطوط في برلين ولا سبيل إليه، فرجع إلى نشرة الكتاب القديمة. وكانت مليئة بالأخطاء فأصلح ذلك كله بمقارنة النص المنشور بالنصوص التاريخية الأخرى، ثم إنه التزم التعليق حتى تضخمت الهوامش وبلغت حداً كبيراً. وقد كان ربع هذا كافيا. ومن الخطأ أن يتصور الناشر نفسه شارحاً، فمجال الشرح طويل لا يحتمله النشر. ودليل ذلك إن الدكتور الشيال لم يشرح نقطاً كثيرة تجل عن الحصر كما شرح أشياء كثيرة فوق الحصر. فأنت تتحير حين تقرأ النص بين هوامشه الكثيرة، وقد تهمل هذه الشروح لكثرتها. فإذا صبرت فقرأت كل ذلك وجدت شيئاً غير مشروح إلى جانب شيء مشروح. ولعل أنفع شيء للناشر والكتاب والجمهور جميعاً أن توضع كافة الشروح والتعليقات في مقدمة بأول الكتاب، فيستطيع المستعجل أن يكتفي بها ويستطيع غيره أن يهتدي بها في قراءته الكتاب. وقد جرى على ذلك المنهج كثير من الناشرين حتى أصبح لزاماً علينا أتباع منهجهم إلا إلى منهج أحسن.
وقد كنا نحب أن ينبه الدكتور الشيال قراءه وقراء المقريزي إلى أن هذا الكتاب لا يعد من أئمة كتبه، وأن صبر المقريزي على جمع الأخبار خانه هذه المرة، وأن جزءاً هاماً جداً من الكتاب قد ضاع حتى ليعد الجزء الباقي منه شيئاً يسيراً إلى جانب الضائع. وقد ذكر الدكتور الشيال هذا الفقد، ولم يعلق عليه؛ وقد نلتمس له أعذاراً كثيرة منها أنك إن ألححت في ذلك زهدت القراء أولاً وعدمت الناشر الطابع؛ وفي ذلك كارثة محققة تصيب العلم قبل أن تصيب العلماء. والناس أحوج إلى من يشجعهم ويشوقهم إلى تراثنا العلمي القديم.
ومن حق الناس مع ذلك أن يعلموا أن الكتاب قد يكون مسودات جمعها المقريزي وفي نيته أن يرجع إليها ثم لم يأذن له وقته بذلك. وإنكان من حقهم أن يعلموا أيضا أن ذلك فرض أرجحه أنا، وقد لا يرى الأستاذ الشيال ذلك، وقد يضع هذا الكتاب في مصاف كتبه