حدث في الماء الآسن حركة بريئة فجائية كأنما ألقى فيه بحجر.
كيف؟!
رأى يوماً - إذ هو مطمئن إلى كرسيه على الطوار - عمالاً يملئون الطريق - يرشون رملاً أصفر فاقعاً يسر الناظرين بين يدي موكب خطير. ولأول مرة في حياته يستثير دهشته شيء فيتساءل لماذا يرون الرمل. . . ثم قال لنفسه إنه يثور فيملأ الخياشم ويؤذي الناس، وهم أنفسهم يرجعون سراعاً فيكنسونه ويلميونه، فلماذا يرشونه إذا؟! وربما كان الأمر أتفه من أن يوجب التساؤل أو الحيرة، ولكن تساؤله بدا له كأخطر حقيقة في حياته وقتذاك. فحال أنه بصدد مسألة من مسائل الكون الكبرى. ووجد عملية الرش أولاً والكنس أخيراً والأذى فيما بين هذا وذاك حيرة، بل أحس ميلاً إلى الضحك. ونادا ما كان يفعل. فضحك ضحكاً متواصلاً حتى دمعت عيناه. ولم يكن ضحكه هذا محض انفعال طارئ. فالواقع أنه كان نذير تغيير شامل، خرج به من صمته الرهيب إلى حال جديد. ومضى يومه حائراً أو ضاحكاً، يحدث نفسه فيقول كالذاهل، يرشون فيؤذون ثم يكنسون. . . ها ها ها.
وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد. ووقف أمام المرآة يهيئ من شأنه. فوقعت عيناه على ربطة رقبته. وسرعان ما أدركته حيرة جديدة، فتساءل لماذا يربط رقبته على هذا النحو؟ ما فائدة هذه الربطة؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس. وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة. ومضى يقلب عينيه في أجزاء ملابسه جميعاً بإنكار وغرابة. ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ونطرحها أرضاً؟ لماذا لا نبدو كما سوانا الله؟ بيد أنه لم يتوقف عن ارتداء ملابسه حتى انتهى منها، وغادر البيت كعادته، ولم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش ففي إهابه دهراً طويلاً قانعاً مطمئناً. كيف له بالهدوء والرمل لا يزال عالقاً بأديم الأرض! كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه على رغمه! أجل على رغمه؛ قد اجتاحته موجة غضب وهو يحث خطاه. وكبر عليه أن يرضي بقيد على رغمه. أليس الإنسان حراً؟!