وتفكر ملياً ثم أجاب بماسة، بلى أنا حر، وملأه بغتة الشعور بالحرية. وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتى استخفه الطرب. أجل هو حر. نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينا لا سبيل إلى الشك فيه. إنه حر يفعل ما يشاء كيف شاء حين شاء غير مذعن لقوة أو خاضع لعلة. لسبب خارجي أو باغت باطني حل مسألة الإرادة في ثانية واحدة. وأنقذها بحماسة فائقة من وطأة العلل. وادخله شعور بالسعادة والتفوق عجيب. فالقى نظرة ازدراء على الخلق الذين يضربون في جوانب السب مصفدين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاُ. إذا ساروا لم يملكوا أن يقفوا. وإذا وقفوا لم يملكوا أن يسيروا. أما هو فيسير إذا أراد، ويقف حين يريد. مزدرياً كل قوة أو قانون أو غريزة. وأهاب به شعوره الباهر أن يجرب قوته الخارقة فلم يستطع أن يعرض عن نداء الحرية. توقف مسيره بغتة وهو يقول لنفسه (هأنذا أقف لغير ما سبب) ونظر فيما حوله ثواني ثم تساءل: أيستطيع أن يدفع يديه إلى رأسه؟ أجل يستطيع. وهاهو يرفع يديه غير مكترث لأحد من الناس. ثم تساءل مرة أخرى هل تواتيه الشجاعة على أن يقف على قدم واحدة؟
وقال لنفسه نعم أستطيع وما عسى أن يعتاق حريتي؟ وراح يرفع يسراه كأنه يقوم بحركة رياضية في أناة وعدم مبالاة كأنه وحده في الطريق بلا رقيب. وغمرت فؤاده طمأنينة سعيدة وملأته ثقة بالنفس لا حد لها. فمضى يتأسف على ما فاته - طوال عمره - من فرص كانت حرية بأن تمتعه بحريته وتسعده بحياته. واستأنف مسيره وكأنه يستقبل الحياة من جديد.
ومر في طريقه إلى القهوة بمطعم كان يتناول به عشاءه في بعض الأحايين. فرأى على طواره مائدة ملأي بما لذ وطاب. يجلس إليها رجل وامرأة متقابلين يأكلان مريئاً ويشربان هنيئاً. وعلى بعد يسير جلس جماعة من غلمان السبيل، عراياً إلا من أسمال بالية تغشى وجوههم وبشرتهم طبقة غليظة من غبار وقذارة. فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر. وشاركته حريته عدم ارتياحه فأبت عليه أن يمر بالمطعم مر الكرام. ولكن ما عسى أن يصنع؟ قال له فؤاده بعزم ويقين (ينبغي أن يأكل الغلمان مع الآخرين). ولكن الآكلين لا يتنازلان عن شيء من هذه الدجاجة التي أمامهما بسلام. هذا حق لا ريب فيه. أما إذا رمة بها إلى الأرض فتلوثت بالتراب فما من قوة تستطيع أن تحرمها الغلمان. فهل ثمة مانع من