للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تحقيق رغبته؟. . . هيهات ربما كان التردد ممكناً في زمن مضى، أما الآن. . . واقترب من المائدة بهدوء! ومد يده إلى الطبق فتناول الدجاجة ثم رمى بها عند أقدام العرايا. وتحول عن المائدة وسار إلى حال سبيله كأنما لم يأت أمراً نكراً، غير عابئ الزئير الذي يلاحقه مفعما بأقذع السباب والشتائم. بل غليه الضحك على أمره، فاسترسل ضاحكاً حتى دمعت عيناه. وتنهد بارتياح من الأعماق، وعاوده شعوره العميق بالطمأنينة والثقة والسعادة.

وبلغ القهوة فمضى إلى كرسيه واطمأن إليه كعادته. بيد أنه لم يستطع هذه المرة أن يشبك راحتيه حول ركبته ويستسلم لسكونه المعهود. لم تطاوعه نفسه، فقد فقدت قدرتها على الجمود. أو برنت من عجزها عن الحركة. فنبا به مجلسه، حتى هم بالنهوض. إلا أنه رأى - في تلك اللحظة - شخصاً غير غريب عن ناظريه وإن لم تصله به أسباب التعارف. كان من رواد القهوة مثله. وكان جسماً ضخماً وأوداجا منتفخة، يسير مرفوع الرأس في خيلاء، ملقيا على ما حوله نظرة ترفع وازدراء، تنطق كل حركة من حركاته، وكل سكنة من سكناتة بالزهو والكبر كأنما يثير الخلق في نفسه ما تثيره الديدان في نفس رقيقة مرهفة الحس. وكأنه يراه لأول مرة، بدا له قبحه وشذوذه عارياً. فغالبته هذه الضحكة الغريبة التي ما انفكت هذين اليومين تعابثه. ولم تفارقه عيناه. وتثبتت خاصة على قفاه يبرز من البنيقة عريضاً ممتلئاً مغرياً. وتسائل أيتركه يمر بسلام!. . . معاذ الله، لقد ألف داعي الحرية. وعاده إلا يخالف له أمراً. وهز منكبيه استهانة. واقترب من الرجل فكاد يلاصقه. ورفع يده وأهوى بكفه على القفا بكل ما أوتي من قوة فرنت الصفعة رنيناً عالياً. ولم يتمالك نفسه فأغرب ضاحكاً. ولكن لم تنته هذه التجربة بسلام كأختها السابقة. فالتفت الرجل نحوه في غضب جنوني، وأمسك بتلايبه وانهال عليه ضرباً وركلاً، حتى خلص بينهما بعض الجلوس. وفارق القهوة لاهثاً. ومن عجب أنه لم يستشعر الغضب ولا الندم. وعلى العكس من ذلك ألمت بحواسه لذة عجيبة لا عهد له بها من قبل. وافتر ثغره عن ابتسامة لا تزايله. وفاضت نفسه بحيوية وسرور يغشيان أي ألم، لم يعد يكترث لشيء غير حريته التي فاز بها في لحظة سعيدة من الزمان وأبى أن يغرب عنها ثانية واحدة من حياته. ومن ثم القي بنفسه في تيار زاخر من التجارب الخطيرة بإرادة لا تنثني وقوة لا تقهر. صفع أقفية وبصق في وجوه وركل بطونا وظهوراً. ولم ينح في كل حال من اللكمات والسباب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>