للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فحطمت نظارته ومزق زر طربوشه، وتهتك قميصه وانفضت ثنيتاه. ولكنه لا ارتدع ولا ازدجر ولا انثنى عن سبيله المحفوف بالمخاطر، ولا فارق الابتسام شفتيه ولا خمدت نشوة فؤاده الثمل، ولو اعترض الموت طريقه لاقتحمه غير هياب.

ولما آذنت الشمس بالمغيب عثرت عيناه المتجولتان بحسناء مقبلة متأبطة ذراع رجل أنيق المنظر ترفل في ثوب رقيق شفاف. تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى فستانها الحريري. وجذب صدرها الناهد عينيه فزادتا اتساعاً ودهشة. وهاله المنظر، وكانت تقترب خطوة فخطوة حتى باتت على قيد ذراع وكان عقله - أو جنونه - يفكر بسرعة خيالية. فخطر له أن يغمر هذه الحلمة الشاردة. إن رجلاً ما يفعل ذلك على أية حال فليكن هذا الرجل. واعترض سبيلهما ومد يده بسرعة البرق وقرص. آه. لقد انهالت عليه اللطمات واللكمات. وأحاط به كثيرون ولكنهم في النهاية تركوه، لعل ضحكته الجنونية أخافتهم. ولعل نظرة عينيه المحملقتين أفزعتهم، وتركوه على أية حال، ونجا ولم تكد تزداد حالته سوءاً. وكان لا يزال به طموح إلى مزيد من المغامرات. ولكن لاحت منه نظرة إلى ملابسه فهاله ما يرى من تمزقها وتهتكها. وبدلاً من أن يأسى على نفسه راح يذكر ما دار بخلده صباح اليوم أمام المرآة، فلاحت في عينه نظرة غائمة، وعاد يتساءل: لماذا يدع نفسه سجيناً في هذه اللفائف تشد على صدره وبطنه وساقيه، وناء بثقلها، وشعر لوطأتها باختناق. فغلت مراجله ولم يستطع معها صبراً. وأخذت يداه تنزعانها قطعة فقطعة، بلا تمهل ولا إبطاء، حتى تخلص منها جميعاً، فبدا عارياً كما خلقه الله. وعابثته ضحكته الغريبة، فقهقه ضاحكاً واندفع في سبيله. . .

نجيب محفوظ

<<  <  ج:
ص:  >  >>