بين وشائجه الأسباب. فهما يتفاهمان في ذلك العالم ويصافح بعضهما بعضاً.
هذا هو الأدب بالمقارنة يعمل على درس ميزات أدب كل أمة بمقارنتها مع ميزات غيرها من الأمم. وهو أدب - كما قلت - حديث الخلق، شجع على نشره شيوع الأدب الإنساني. ولعل رسالة الفلسفة كانت أسبق من الأدب إلى هذه الرسالة. لأنها تنعتق من قيود العاطفة ولا تتخذ مطيتها إلا الفكر. والفكر اصلب عوداً من العاطفة. والفلسفة وحدها كانت أبعد العلوم الفكرية شيوعاً وذيوعاً في كل عصر، تكتسبها الأمم الغالبة من الأمم المغلوبة دون أن يلحقها عار الاكتساب، ودون أن تتحوط له. كما نقل العرب الفلاسفة اليونانية بحذافيرها، وطبقوها على عقائدهم الفكرية والاجتماعية، حتى غدا اليونان أساتذة العرب في الفلسفة. أما الأدب اليوناني فلم يكتب له حظ الانتقال في كثير ولا قليل. ولعل ذلك يعود إلى اختلاف الإحساس والتعبير عند الأمتين. ومن عجب الأيام أن يمتزج المنطق اليوناني مع العقل، ويتبدل حتى يغدو جزءاً من العقل العربي. والأدب اليوناني لا يكتب له إلا الخيبة.
ألم يتدارس العرب الأدب اليوناني، كما تدارسوا الفلسفة اليونانية؟ قد يظن أنهم درسوا شيئاً منه وسمعوا ألحان هوميروس فيه، ولكن ألحانه لم تطب لهم، لأن هذه الأساطير التي يطفح بها أدبهم جاءت في العهد الذي كان يسيطر فيه المنطق اليوناني على العقل العربي، فصموا عن هذه الألحان ولم يعيروها التفاتاً. وقد يظن أن الأدب العربي الذي كانت معجزة البلاغة منه كان سيد نفسه، لا يميل إلى اقتباس قواعد البلاغة من غيره، وما فوق بلاغة الكتاب بلاغة. وقد يُظن - وأرجح هذا - أن العرب طووا الأدب اليوناني - اعتماداً على الظن الثاني - ولم يلجوا فيه، فلم ينم لهم ذلك الذوق اليوناني الذي يستطيع أن يحس لذة فنهم وعبقريتهم كما يحس أهله! وبذلك طغا العقل اليوناني على العرب. أما أدبه فلم يكن له في الدائرة نصيب.
على أن هذا الأدب لم يترك له أثراً في الأدب العربي قد شغل بعض أذهان رجال من العرب؛ شغلها عن طريق الفلسفة لا عن طريق الأدب. فأبن رشد والفارابي قد ناقشا الشعر اليوناني لا بالطريقة التي ينبغي لصاحبها أن يتبعها ويتخذ لها السبل المختلفة في نفسها، وإنما ناقشاه بالطريقة التي أتبعها أرسطو. فلولا أرسطو لم يتصد ابن رشد والفارابي للشعر