اليوناني، فهما في ذلك متبعان لا مبتدعان. فإذا أثنى ابن رشد على هوميروس فهو لم يثن بلسان نفسه وفن نفسه، وإنما يثني لأن ارسطو أثنى عليه. وسبب ذلك واضح، لأنهما قرءا تحليل أرسطو لهوميروس ولم يقرءا لهوميروس نفسه. وبذلك ظل الأدب اليوناني بعيدا عنهما. وبالرغم من ذلك نرى ابن رشد قد استطاع أن يدرس قواعد شعرهم ويفيد من تلك القواعد ويعمل على تطبيقها في آداب أمته. وعمله هذا هو ما نريد منه (الأدب المقارنة) وهذه المقارنة برغم نقصها الفني جاءت مقارنة حسنة في بابها، مبتدعة وقتها. ألقت على الأدب العربي ضوء دراسة جديدة. على أن أدباء العرب الذين وقفوا على هذه المقارنة وشعروا بهذا التفاوت لم يجدوا في أنفسهم ما يحملهم على مناقشة هذه القواعد والاستفادة منها، وقد رأوا ما حل بإخوانهم الفلاسفة من الوشايات والمكائد التي كانت تنصب لهم، وألوان الاضطهاد الذي نزل عليهم. أضف إلى ذلك أن الألحان الوصفية والعاطفية في الشعر اليوناني كانت تتمشى في تضاعيفها العقيدة والوثنية والآلهة الكثيرة، والعرب كانوا شديدي الغيرة على هذا الواحد زهوا به على الأمم، فصرفتهم الأساطير عن تذوق ما في الأساطير.
تذوق هذان الرجلان بعض روائع الأدب اليوناني ولكن طبيعتهما الأدبية لم تكن لتخول لهما أن يكونا زعيمي مدرسة في الأدب جديدة، فلن يخرج تأثيرهما عما اختصا به. وهيهات أن يصنع الفيلسوف ما يصنعه الأديب في عالم أدبه. فلو أن ابن الرومي مثلاً تذوق هذه الروائع إلى حد بعيد لفعل أكثر مما فعل، ولخلق للشعر أخيلة أخرى ونماذج أخرى، ولكن ابن رشد ما عسى يستطيع أن يعمل وهو ليس بزعيم مدرسة أدبية! إنه يجادل ويحدد ويهدي إلى مناهج ومناهج ولكنه لا يخلق شيئاً.
إن فضل ابن رشد على الأدب العربي في هذا الكتاب لفضل عظيم، لأنه يدل على العربي الأول الذي كتب عن الأدب بطريق المقارنة، ووفق في هذه المقارنة كثيراً؛ ويدل بعد ذلك على أن العرب جربوا أن يدرسوا الآداب الأجنبية ليستفيدوا ويفيدوا من قواعدها، وأن دراستنا - اليوم - للأدب الأجنبي أكثر ضرورة منها بالأمس، بعد أن امتزجت عوالم الفكر واتحدت مناهج الأدب، وأصبح لا يليق بنا أن نترك الأدب العربي محصوراً في عزلته بحجة صيانة ووقايته. وما الذي يخشى عليه؟ وإنما صيانته ووقايته في تعريضه للهواء