وإنما المقصود بالتشخيص تلك الملكة الخالصة التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حيناً أو من دقة الشعور حيناً آخر. فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسموات من الأجسام والمعاني فإذا هي حية كلها لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة؛ والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر، ويهتز لكل هامس ولامسة، فيستعبد جد الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير، وتوقظه تلك اليقظة، وهي هامدة جامدة صفر من العاطفة خلو من الإرادة. وهذا الشعور الدقيق هو شعور ابن الرومي بكل ما حوله وسبب ما عنده م قدرة الأحياء وقدرة التشخيص: قدرة التشخيص التي هي ملكة مقصودة تكون عند أناس ولا تكون عند آخرين، وليست قدرة التشخيص التي هي حلية لفظية تلجئنا إليها لوازم التعبير ويوحيها إلينا تداعي الفكر وتسلسل الخواطر)
وعلى هذا النحو البارع يمضي العقاد في تصوير ملكات ابن الرومي مستطرداً إلى بحث كامل في الملكات عامة، يبين صحيحها من زائفها، ويكشف عن وشائج هذا بذلك مستلخصاً الصحيح من النظرات، ممحظاً خالصاً
وبمثل هذه البراعة يحلل الأمثلة التي يستعرضها من شعر ابن الرومي، ويكشف عن نواحي القوة أو الضعف فيها؛ فإذا الرجل شاخص وراء هذا التحليل، تطالعك نفسه كالصفحة المبسوطة تحت المجهر الدقيق
هذه ومضات عن ذلك الكتاب الذي ظن أحد الكتاب عندنا أنه يمنحه أقصى حقوقه حينما قال عنه:(لو تقدم به صاحبه إلى أية جامعة لمنحته الدكتوراه!)
هه! الدكتوراه!
ومن يكون الأساتذة الذين يناقشون هذه الرسالة إذن ولمن يمنح (كرسي الأدب) في أية جامعة من جامعات الدنيا إذ ذاك؟