وعاشا عمرهما لم ينجبا غير ابن وحيد. وتزوج الابن فأنجب ابنة هي هذه الحفيدة، وقسا القدر فمات الابن، ثم لحقت به زوجته بعد قليل، وخلفا الطفلة الصغيرة لا راعي لها إلا جداها الكبيران ثم قسا القدر على الشيخ قسوة أخرى كبرى فماتت زوجته، وخلفته في شيخوخته يرعى نفسه ويرعى الحفيدة الصغيرة وحده، ينظر إلى شجرة الأسرة التي أنشأها فلا يرى باقياً منها إلا هو وفي طرف الحياة من عند نهايتها وهذه الصغيرة في الطرف الآخر عند المبدأ.
أن فرط حنان الجدود على الصغار من أحفادهم وحبهم لهم أمر معروف، أما الحنان والحب من شيخ كبير وحيد لحفيدة صغيرة وحيدة يتيمة الأبوين لا راعي لها إلا هو فهما لا شك يبلغان الغاية أو يتجاوزانها. أن حنان سامي بك وحبه لحفيدته (عزيزة) مما تعجز الكلمات عن تصويره.
إنه ينظر إلى الرصيد القليل المتبقي له من أيام الحياة. ترى هل يمتد به حتى يرى (عزيزة) زوجة سعيدة؟ لقد كان في صباه لا يرهب الموت، وعلى الأهبة في كل لحظة لبيع حياته بيعاً سمحاً عندما يقتضيها الواجب. كان ذلك والحياة قيمة، والشباب قشيب، وبساط الأمل زاه فسيح، وأفق المستقبل متألق بسام. واليوم وقد انقضت الحياة إلا نفاية من وهن وأوصاب، وبساطها قد انطوى إلا طرف يرتعش للانطواء، والأفق نحبو أضواؤه مؤذنة بانسدال الستار، يجد الشيخ نفسه أشد ما يكون حباً للحياة وحرصاً عليها. . من أجل (عزيزة).
وكانت له في الحياة أماني أشتات، تزدحم بنفسه في بعض الأوقات بالمئات، تحقق منها ما تحقق وأخفق منها ما أخفق، واليوم لا يعرف غير أمنية وحيدة، هي أن يعيش ليرى عزيزة ولجت باب الحياة، وثبتت على أرضها قدميها، ولم تعد بحاجة لقبضته الواهنة تأخذ بيدها، ويستطيع أن يستودعها ركناً آمناً هانئاً، ويستقبل المصير الحتم لكل حي بقلب رخي وبال خلي.
لكن هب أن الأجل أمتد به وتحققت الأمنية، وذهبت عنه عزيزة في زيجة سعيدة فكيف تكون حياته بعد ذهابها؟ إنه حقاً إنما يعيش من أجلها، لكنه في الوقت نفسه لا يعيش إلا بها. كانت في حياته أنجم وأقمار وشموس فأفلت كلها إلا كوكب واحد هو هذه الصغيرة،