وكتمت أنفاسي لألتقط الكلمة الأولى التي كنت أرجو أن تطرب لها أذني ذلك اليوم كله - بل عمري كله - وكنت أنتظر بأن يجلجل في القاعة صوت جَهْوَري رنان، فإذا بي أنصت لصوت خافت كأنه الوسوسة، وحديث هادئ موزون لا تخرج من بين شفتي سماحته كلمة من كلماته إلا بعد أن يتأكد أنه لا يعطي ما يريد معناها إلا هِيَهْ، مستعيناً على إيضاح فكرته بحركات من يد محكمة، وإشارات ناعمة: فعلمت أن سماحته يؤثر أن يكون هادئ الحديث، خافت الصوت، قليل الحركات بحكمة الرجل الرشيد، على أن يكون وَحِيَّ الحديث، جهير الصوت، كثير الحركات، بتهور لا يغني، وحماسة لا تفيد.
تساءل سماحته عن كل فرد منا، وعن الكلية التي ينتسب إليها، والسنة التي أصبح فيها، والعلوم التي ندرسها، ثم أحب أن يتعرض لقلة المدارس العربية في فلسطين، وأن يستنهض الهمم إلى المطالبة بجعل المعارف في أيدي العرب فقال:
- (إن قلة مدارسنا العالية من ويلات الاستعمار ولعناته، فما يريد لنا خصومنا أن نحيا أحراراً كما يحيا الناس، وأن نكون متعلمين كما يتعلمون، وأن نكون متسلحين كما يتسلحون.
كنا في بلادنا قُرحْاناً قليلا ما يصيبنا داء، أصحاء نادراً ما يدهمنا وباء: فإذا اعتللنا عرفنا كيف نتناول بأنفسنا الدواء. . ثم ما أصابنا الداء إلا من جراثيم اليهود، ولا دهمنا الوباء إلا من عدوى الإنكليز، ولا عافت أنفسنا الدواء إلا لأنهم أرادوا أن يَدُفوه بأيديهم وقد كنا ما نزال لا نقبل من الدواء إلا ما كان مدوفاً بأيدينا؛ لأن مناعتنا أبداً بِحِمْيتنا، ولأن قوتنا في كل حين بالاستغناء عن الآخرين).
ولعلك تحسب أن سماحة المفتي الأكبر كان - وهو يلقي هذه الكلمات التي أشعلت صدورنا ناراً - يعمد إلى الخطابة والبيان، فيرتفع صوته، ويبدو الانفعال عليه. كلا. . . وإنما كان يتحدث هذا الحديث الخطير، بصوت أنعم من الحرير، حتى أصبحت أومن بأن الإنسان العظيم يستطيع في آن أن يكون في رشاقة الغزال وقوة الأسد الهصور.
ورأيت إلى يدي سماحته فإذا هما كحرير الورد، وأخذت أطيل إليه النظر من جديد لأرى أين تكمن تلك القوة الهائلة التي جعلته يَلقَى العقبات الكأداء فيذللها، وتعترضه الصّعاب فيقتحمها، فقاد الثورة الفلسطينية، وهاجر إلى لبنان ثم إلى العراق ثم إلى إيران ثم إلى