المصلح عظيما، ولكنها لا تجعله زعيما. وأريد بالزعامة هنا زعامة العامة لا زعامة الخاصة، فقد كان الفقيد زعيما في المحاماة، وزعيما في التشريع، وزعيما في الشورى؛ وفي كل هذه الأمور كان هو وسعد يتعاوران الأولية، فلما دخلا معا ميدان السياسة، دخلها هو بعقل القاضي ولسان المحامي. والقاضي أداته قانونه ونزاهته، والمحامي آلته دليله وبلاغته. وإذا تجهزت للزعامة السياسية في أمم الشرق بالقانون والضمير والنطق والصراحة والصدق، هاجمك خصمك بالأباطيل الغاشية فيظهر عليك، ووقف منك جمهورك على الحقائق العارية فينفر منك. لذلك كان حظ عبد العزيز من القضية المصرية على فصاحته في الخطابة وبلاغته في الكتابة، حظ القائد الحكيم الذي توضع الخطط على رسمه، لا حظ القائد الزعيم الذي نتوج (الأوامر) باسمه. وظل طول عمره السياسي راضيا بهذا الحظ حتى عجز آخر الأمر عن التوفيق بين هواه والعامة، وبين خلقه والسياسة، وبين ضميره والحكم، فارتد إلى القضاء وقد آتاه الله فيه الحكمة وفصل الخطاب، فوضع المبادئ، وقرر الأحكام، وأضاف إلى الفقه المصري مادة ضخمة من علمه وحكمه زادت في ثروته ورفعت من قيمته.
ثم اختير بعد اعتزاله القضاء عضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية، فأخلى ذرعه للنظر في علوم اللغة والأدب بعين الفقيه المجتهد والأديب الناقد، حتى بلغ منها مبلغ الأعلام الذين وقفوا على تحصيلها العمر والجهد. وتقدم إلى المجمع بمشروع اقتباس الحروف اللاتينية للكتابة العربية، مقرونا بالأسباب، معززا بالمزايا، مؤيدا بالأسانيد ثم أعقبه بكتاب ألفه في الرد على معارضيه ومنتقديه، جمع إلى بلاغة الأسلوب قوة العرض ومتانة الحجة، فكان آية على سمو طبقته في الكتابة وبعد غيته في الأدب. فلما أقعدته العلة رضوان الله عليه كانت غرفة مرضه ملتقى أقطاب الفقه والأدب والسياسة، يستفيدون من علمه، ويستزيدون من أدبه، ويستضيئون بفكره؛ وهو في كل ما يعرض عليه أو يتعرض له طلق البديهة، محكم الرأي، جيد الأستنباط، حاضر الدليل.
كنت فيمن يزورونه الحين بعد الحين، فكان في كل زوره يكشف لي غير عامد عن سر من أسرار عبقريته. دفع إلي مرة بضع مقالات في نقد شرح وضعه أستاذان جليلان لكاتب البخلاء، وشرط علي أن أنشره غفلا من الإمضاء. فلما ظهر النقد في الرسالة كان حديث