ودارت عجلة الزمن وأصبح الطفل شاباً. . شاباً ثائراً أيضاً! ولكن ثورة اليوم قد تغيرت عن ثورة الأمس: غيرها طول التجربة، واتساع الأفق، واكتمال الوعي، سواء في شؤون الأدب أو في أمور الحياة. . ويتذكر الشاب الثار طفولته الثائرة فلا يستطيع أن يمنع ابتسامة عابرة من أن ترتسم على شفتيه: أحقاً لم يكن في بيته ما يستحق أن يؤكل، ولا عند أهله ما يستحق أن يلبس، ولا بين أصدقائه الصغار من يستحق عطفه وحبه ورضاه؟! ويقتنع الشاب الثائر أن ثورة طفولته كانت عمياء لا تبصر، وغافلة لا تعي، وذاهلة لا تفرق. لقد كان في فوره غضبه يحطم (كل) الأشياء وكان (بعضها) يستحق البقاء، وكان في وقدا سخطه يعمد إلى تكدير (الجميع) وكان (بعضهم) يستحق التقدير، وقل مثل ذلك عن موقفه من أنواع الثياب وألوان الطعام!
وبمثل هذا الإدراك السليم نظر الشاب الثائر إلى أدبنا المصري وثار عليه. . ثار عليه في (أكثر) حالاته ولم يثر عليه في (كل) حالاته، لأنه أراد لثورته أن تكون عادلة لا ظالمة، ومنصفة لا مجحفة، ورزينة متأنية لا يفسد من رزانتها تهور ولا يشوه من أناتها اندفاع؛ حين آمن بعد طول التجربة واتساع الأفق واكتمال الوعي، أن هناك فارقاً كبيراً بين ثورة الرجولة وثورة الطفولة!!
إنك يا صديقي - وأرجو مرة أخرى أن يتسع لي صدرك - لا تزال تمثل تلك الثورة الطفلة التي عرفتها أنا في ذلك الماضي البعيد. . وإذا كان هناك فارق بيني وبينك، فهو أنني قد ودعت ذلك العهد الغابر وأنك لا تزال تعيش فيه، على الرغم من أنني قد تخطيت اليوم حدود الثلاثين وأنك قد تخطيت بالأمس حدود الأربعين. . إنني لا أريد أن أنال منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح، وإنما أريد صادقاً أن أقدم ثورتي وثورتك على حقيقتهما إلى الناس، ليعرفوا كما قلت لك أي ثائر أنا وأي ثائر أنت!
لقد قلت في مقدمة كتابي الثائر الذي تفضلت مشكوراً فكتبت عنه: (لقد نظرت إلى أدبنا فوجدته في أكثر حالاته أدب المحاكاة الناقلة لا أدب الأصالة الخالقة، أدب الترديد والتقليد لا أدب الإبداع والتجديد؛ ليس له طابع خاص وليست له شخصية مستقلة، وإنما ضاع طابعه واختفت شخصيته في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بغية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان. . إنني أتحدث هنا عن أدبنا المصري في نطاق الدراسة الأدبية والنقدية؛ الدراسة