لقد آذاني معالي السيد أرشد العمري، وكظمت غيظي فلم أسمعه ما يكره، وقلت في نفسي: إن الرجل تصور أنني أهنته فسحب مني الدعوة، والجروح قصاص
وقلت: هم سيقضون السهرة في الرقص وسأقضيها في التأليف وأنا أجد لذة ممتعة حين أراني أجد في وقت يلعب فيه الناس
وتذكرت أني أشغل مطبعتين في بغداد، وأن من الخير أن اعتكف في المنزل فأحضر بعض الوقود لجحيم المطابع
وكذلك اطمأننت إلى الزهد في ليلة بغداد التي وُعِدَ بها المؤتمرون!
ولكن ما هذه الدعوة الجديدة؟ هي دعوى لسياحة طريفة في ضواحي الكرخ وبغداد، نتفرج بها على إسالة الماء. وأنا قد أمضيت نحو خمسة أشهر محبوساً بين المكاتب والأوراق، ولم أر في بغداد غير الجادة والدربونة ودار المعلمين العالية وكلية الحقوق وما تيسر من سواد العيون
وسرت مع السائرين للتفرج على إسالة الماء وأنا أرمي إلى غرضين: الأول الترويح عن النفس، والثاني كتابة بحث لمجلة المقتطف عن تكوين الصهاريج
فهل روحت عن نفسي وأعددت مواد البحث المنشود؟
ما صنعت شيئاً من ذلك، وإنما دارت الأرض تحت قدمي حين رأيت صاحبة العينين، فكان المهندسون يشرحون الدقائق العلمية في تقطير المياه لتزويد الكرخ وبغداد بالماء النمير، وكنت أنظم الخطط لأكون دائماً بالقرب من صاحبة العينين. ومن العجيب أن أمري لم ينكشف؛ ومضى المهندسون وهم يعتقدون أنني كنت المستمع الواعي، وأن سائر المستمعين لم يفهموا إلا أن الكرخ وبغداد تسقيان من دجلة لا من الفرات
ولمثل هذه المواقف منحنا الله نعمة العقل!
ومضينا فتناولنا الشاي والفاكهة فوق العشب الأخضر وبين الأشجار التي أذوتها أرواح الشتاء، وأدير على الحاضرين صوت أم كلثوم: