للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تلك هي حياتنا الدنيا! أراها من وراء المرض على لونها الأصيل ووضعها الحق: ظاهرةٌ متغيرة من ظواهر الطبيعة المتجددة، مَثَلها في الإنسان كمثلها في الحيوان، تعيش بالغذاء إلى أمد مأمود، وتبقى بحفظ النوع إلى أبد محدود.

ولو لم يتدخل الإنسان بعقله وعلمه في نظم الطبيعة لجرى تيار الحياة دفاقاً مستقيماً في مجراه المرسوم المحتوم كما يجري في النبات الوحشي والحيوان الأبد. ولكن آدم جعله الله خليفة في الأرض فلا بد أن يكون كل ما فيها خاضعاً لتدبيره مسخراً بأمره. وكان أمره وتدبيره على الرغم من اعتماده فيهما على دين الله وفلسفة العقل لا يخلصان من سلطان الهوى وطغيان الغريزة؛ ومن أجل ذلك كانت حياة الإنسان وحدها عرضة للتعقيد والارتباك والتناقض

ومن أعجب أمور الإنسان أنه وحده الذي فطن عن طريق العيان والبرهان أن حياته على هذا الكوكب الفاني موقوتة؛ ومع ذلك كان وحده الذي استعمر هذه الأرض على أنه باق وهي خالدة؛ فهو يكدح حتى ما يعرف طعم الراحة، ويجمع حتى ما يدري معنى الإنفاق، ويسلب أخاه أو وديده حق الحياة ونعمة السلام ليزيد في ماله الضخم قطعة، أو يضم إلى أرضه العريضة رقعة. وقد سول له غروره أن يتبجح بأنه سخر الطبيعة لخدمته، وذلل قواها لمشيئته؛ والحق الذي طمسته الكبرياء في ذهنه أن نوعه هو الوحيد في أنواع الحيوان الذي استخدمته الطبيعة ليعمرها بعمله، وينظمها بعلمه، ويزخرفها بفنه، ويهيئ لها أسباب الازدهار والاستمرار والنمو بما يبتكر من وسائل، ويسن من نظم، ويؤثل من مال، ويدخر من رزق

والطبيعة كما تستخدم الإنسان في البناء لاطراد العمران، تستخدمه في الهدم لحفظ التوازن، فهي تستعين بحروبه الطاحنة كما تستعين بالبركان والفيضان والموئان على قطع الفاسد، وحذف الزائد وتجديد البالي، وتعديل القُوًّى، وكفكفة الباطل هؤلاء الذين يجمعون ما لا ينفقون، ويبنون ما لا يسكنون، ويدخرون ما لا يأكلون؛ وأولئك الذين زعموا لقومهم سيادة العالم، وأجازوا لأنفسهم قتل الشعوب، ووقفوا على شهواتهم طيبات الأرض، قد استقلتهم إرادة الطبيعة القهارة التي لا تعرف اليوم ولا المكان ولا الفرد، وإنما تعمل للأبد والكون والجنس

<<  <  ج:
ص:  >  >>